21‏/3‏/2011

جدار الزمن

في ليلة الشتاء بعد طول انتظار رزقا بطفل جميل , لم تسع الدنيا فرحتهما .. لقد صبرا ونالا جزاء صبرهما طفل جميل يملأ حياتهما سعادة , الله كريم .. الصبر مفتاح الفرج , هذه كلماتهم التي رددوها دائما وقد تحققت , أرادا أن يربيانه أفضل تربية ويعلمانه أحسن تعليم حتى يكون مميزا عن الآخرين .. كان الطفل ينموا بسرعة أمام نظر والداه , يكبر والأمل يكبر معه , كان الطفل ذكي جدا ويتعلم بسرعة ويستوعب الأمور ويتصرف تصرفات تفوق سنه . 

مرت على العائلة أيام عصيبة من الفقر والجوع , عندما كانت الأم تضع يدها على خدها ودمعات الحزن تتساقط من عينيها , يأتي ذلك الطفل وينظر إليها بنظرة قلق , يمسك يدها ويقول : ماما , لا تحزني , الأيام القادمة ستكون أفضل , كان كلامه يوقف بكائها ويتحول إلى ابتسامة تملأ وجهها الحنون , بينما الأب يكافح من أجل لقمة العيش وحتى يوفي بوعده بأن يجعل إبنه مميزا .. عندما يعود من عمله يسأله طفله عن ما واجهه من صعوبات في ذلك اليوم ويحفظها ولا ينساها , كان أفضل شيء في حياته هما والداه . 

في العام القادم سيدخل دار الأطفال للتعليم , كم كان سعيدا لذلك وكله شوق لقدوم العام .. كان يلح كثيرا على والده بأن يأخذه إلى الطريق التي سيذهب بها إلى دار الأطفال حتى يتعود عليه , لم يكن من الأب إلا أن يأخذه لأنه لا يحب رد أي طلب لإبنه .. في أول نزهة يأخذه فيها كان مبتسما جدا وهو يلتفت يمينا وشمالا إلى الأشجار الجميلة وصوت العصافير المغردة , لم يكن هناك إزعاج في تلك الطريق الضيقة , لفت إنتباهه بين الأشجار جدار صغير شبه محطم , حدق فيه كثيرا حتى أن تفكيره سرح مع ذلك الجدار , كان الأب يمسك بيده ويحدثه عن العلم وفائدة العلم عندما يكبر , لكن الطفل لم يدري ما يقول لأنه سرح مع ذلك الجدار , استمر الأب في حديثه حتى وصلا دار الأطفال وأخذه في جولة داخلها .

في طريق العودة , أبقى نظره على الغابة حتى ظهر ذلك الجدار من جديد , توقف فجأة وقال .. أبي , أريد الذهاب لرؤية ذلك الجدار , قال الأب .. حسنا , هيا بنا .. عندما وصلا , ترك الطفل يد والده وتقدم نحو الجدار , سأل والده .. أبي , ما قصة هذا الجدار .. أشعر بشيء يشدني نحوه , قال الأب .. لا يفترض بي أن أخبرك هنا , سأخبرك عند النوم , هيا بنا .. عندما وصلا إلى البيت تناولا طعام الغداء المتواضع وذهب الأب ليستريح بينما الطفل ذهب للعب في الخارج .

في المساء , جلس الأب بجانب طفله على السرير وأخذ يقص عليه قصة ذلك الجدار .. قبل 40 سنة , كان يحكم هذا البلد "ألمانيا" سلطة ظالمة ومستبدة , قمع وظلم وأكل لحقوق الناس , لم يكن بيد أحد حيلة لوقف هذا الإستبداد , كان كل من يحاول الإعتراض إما أن يقتل أو يسجن , لكن في أحد الأيام , بين ليلة وضحاها .. أتى رجل غريب , لا أحد كان يعرفه أو سبق وأن رآه , جلب هذا الرجل معه الأمن والسلام لألمانيا بعد فترة طويلة من المعاناة التي ذاقها الشعب , خاض حملة من الإحتجاجات وقف معه فيها كل الشعب الألماني , استمرت ثورته لعامين حتى في النهاية تمكن من إزالة السلطة الظالمة وشكل سلطة جديدة تحت زعامته وكل الشعب أيده وهتف له .. لكن في احدى خطاباته التي ألقاها أمام الجماهير واعدا بإصلاح شامل , أصابته رصاصة الغدر من بندقية أحد أتباع السلطة البائدة , لم يشاؤوا أن تسير ألمانيا نحو الأفضل .. حزن الشعب كثيرا على موته وأعلن الحداد لثلاثة أشهر ونكست الأعلام , وقام الشعب بدفنه في مقبرة تضم أبرز الشخصيات في ألمانيا , لكن السلطة البائسة عادت بوجه وقائد جديد وأذاقوا الشعب الويل وعوقب آلاف الناس لمشاركتهم في الإحتجاجات , وقاموا بنبش قبر الزعيم وحرق جثته , وعادت المأساة من جديد .. سجل اسم الزعيم في سجل التاريخ , وبنى الأهالي نصب تذكاري تخليدا لذكراه , وما بقي من ذلك النصب هو الجدار المحطم الذي رأيته يا بني , الطفل .. قصته رائعة يا أبي , ولكن ما هو اسمه , الأب .. لم يبح بإسمه الحقيقي لأحد , كان له لقب "أوليفر" "الزعيم أوليفر" , الطفل .. هل ذهبت السلطة الظالمة اليوم يا أبي ؟ الأب .. لا يا بني , فما زالت إلى اليوم تتبع نظام التوريث , الأب يعطي السلطة لإبنه وكلهم أسوأ من بعض , الآن يا عزيزي يجب أن تنام , ليلة سعيدة .

حلم الطفل طوال الليل بذلك الرجل الشجاع , ما أجمل أن تعيد البسمة للناس , عندها فقط ستعلم كم يحبوك وستعلم قيمتك الحقيقية ... مرت الأيام والسنين حتى كبر ذلك الطفل وأصبح شاب يافع يدرس في احدى الجامعات , في يوم طلب منهم المحاضر موضوع عن شخصية تاريخية مهمة , جميع الطلاب أحضروا عن شخصيات تاريخية كهتلر ونابليون .. الخ , لكن الشاب أحضر موضوع عن "الزعيم أوليفر" جمع المعلومات من القصة التي رواها له والده , مما أثار استغراب المحاضر وأخذ يصرخ في وجهه .. من أين جئت بهذا الإسم , هذا غير موجود في أي مرجع تاريخي .. وانهال عليه بالتوبيخ وطرده من الحصة , تعجب الشاب من ردة فعل المحاضر الغير متوقعة , لم يسمح للشاب أن يدخل الجامعة مطلقا .. بعد يومين جائت قوات أمن الدولة واعتقلوه من بيته , ترك أمه وأبيه خلفه يبكيان على ولدهما الوحيد .

ألقي في زنزانة قذرة لا تصلح إلا للحيوانات , أرادوا إذلاله  لأنه فكر في إحياء ذلك التاريخ مجددا بعد أن قتلوه من عقول الناس , عذب كثيرا واضطهد كثيرا , لكنه بقي شامخ ولم يستكين ... بعد مدة قصيرة ماتت والدته حزنا عليه , لم يرى وجهها الذي اعتاد على رؤيته , كاد القهر والحزن يقتله وأخذ يصيح على السجانين .. أيها الأوغاد , أيها القذرين .. دعوني أرى أمي .. لكن لم يجبه أحد , كانوا يعذبوه نفسيا ويستمتعون بذلك.

في احدى ليالي الألم داخل الزنزانة , غفت عيناه عميقا بعد حرمان طويل من النوم , ذهب إلى عالم آخر , عالم سعيد وجميل , رآى فيه رجلا ينطلق النور من وجهه , أخبره أن يصبر وأن يسير على خطاه وسينال الفرج عما قريب .. استيقظ من نومه فرحا , كأن ألمه زال , كأن حزنه زال , كأن قهره زال .. كان يكلم نفسه .. لقد رأيت "الزعيم أوليفر" .. نعم ! .

تحققت الرؤيا فعلا , لم يمضي إلا يومين حتى عمت الإضطرابات والمظاهرات ألمانيا من كل أطياف الشعب مطالبين بوقف الإستبداد وإطلاق سراح الشاب .. كان شرارة أشعل فيها غضب الناس وجعلهم يثورون ضد الظلم .. اقتحم الأهالي السجن وكان أولهم والد الشاب لإطلاق سراحه ونجحوا في ذلك , لكن قتل وأصيب الكثيرين وكان من بين القتلى والده .

كل الشعب وقف خلف الشاب "أوليفر الجديد" , أقسم بأن يثأر لأمه وأبيه ولكل شعب ألمانيا من القتلة وكذلك فعل , لم يمض سوى أشهر حتى تمكنوا من السيطرة على كل نواحي الدولة والقبض على الحاكم وقتله وتفكيك النظام وأنهوا نظام التوريث وعم السلام من جديد في ألمانيا بعد ظلم طويل جدا .   


3 تعليقات :

مُسيَّد المومني يقول...

موفق سر الارض ...كل أمنياتي لك بالتميز والنجاح

amjad yaseen يقول...

أهلا مسيد .. يعلم الله أن المدونة نورت بوجودك وبوجود كل الأخوة والأخوات .

pretty yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم...
قصة جميلة للغاية اخى....وايضا اخترت الوقت المناسب تماما لتصدرها....
أرى ان محورها الاساسى هو "حب الحرية" (اى انه فى قلب الاحداث الحالية).....وانا عندما قرأتها احسست بطعم مختلف ربما لم اكن لأحسه لو قرأتها فى وقت آخر قبل ذلك...خاصة اننا لم نبدأ بتنفس هواء نظيف الا تلك الفترة.......

تـحياتى و بالتوفيق

Danke fur die Gescheshte

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021