5‏/4‏/2011

المجرم

سار بخطوات متثاقلة , ترتجف يداه ويحدق في الأرض بعيون جاحظة , يسقط الفأس من يده , اللعنة التي أصابته تحمله إلى مكان مقفر وموحش , يتربع في وسطه بيت قديم كأنه مكان للتعذيب , تدفعه اللعنة للدخول إليه وكأنها مسيطرة على عقله , فراغ كبير في وسطه كرسي , يجلس عليه وهو يرتجف ويداه مبللتان , لا يقدر على الجلوس فيقف لكن شيء يدفعه للجلوس , لم يشعر بندم بمثل هذا الندم في حياته , تمنى لو يعود الزمن للوراء ليصلح ما أفسدته يداه , يجلس وحيد في بيت مهجور , لا يدري إن كان أحد يعلم بمكانه , يداه ترتجفان وقلبه يخفق ودمه يغلي , توقع في كل لحظة أن يأتوا إليه .. هدوء قاتل يعم المكان , هذا الهدوء يثير خوفه , فجأة يذهب الهدوء ويقترب منه صوت خافت , تغيرت ملامح وجهه وابتلع ريقه بشدة , لكن علم أنها مجرد ذبابة دخلت المكان , هدء وعاد لتفكيره .. لكن تلك الذبابة اقتربت منه وبدأت تحوم فوق رأسه , دارت عشرين مرة لكنها سقطت ميتة , نظر إليها بطرفة عين .. لم يقدر على التحمل , ضميره يؤنبه كثيرا .. لا , لا , يكفي ما فعلت , يكفي جرائم ! .. لم يعد يحس بما حوله , كل ما يراه ويسمعه هو صورتهم وصوتهم .. بعد برهة تدخل ذبابة أخرى وفعلت مثل سابقتها وحامت حول رأسه عشرة مرات ثم سقطت ميته , ثم يمتليء البيت بالذباب ويحوم حوله كالإعصار لكن كله يسقط ميتا , يبكي بصمت وضميره يعاقبه .. عقلك طاقته سيئة , كل شيء سيموت بسببك ! .. واجه الحقيقة .. ضميره يدفعه للأمام  وخوفه يبقيه مكانه , احتار ماذا يفعل .. لا بد أنه إن علموا بمكانه سيقتلوه لا محالة .. هل أخاف من الموت .. لا , فأنا فقير , لا شيء سأخسره سوى زوجتي وطفلتي الجميلة , لكن ليس كل الموت هو موت , ميتته ستكون بشعة ومؤلمة لأنه ارتكب جريمة , وفر هاربا من الإنتقام , الخوف يلاحقه حتى حل مكان الدم في عروقه ... لا بد وأن يضع حد لمأساته وعذابه , يجب أن يخرج ويواجه الناس , يجب أن يعاقب على فعلته وأفضل عقاب له هو الموت لأنه أذاق شيئا ما ذالك الموت .. لم يعد شيء يطيقه حتى الحشرات تموت من لعنته القبيحة .

يرفع رأسه إلى السماء ودموعه تنهمر كالشلال من عيونه , ناجى بصوت خافت .. يا إلهي , لم أكن أقصد .. طفلتي كانت ستموت من البرد , أنا مذنب .. أرجوك سامحني ! .. استجمع قواه ووقف , لكن قدماه كانت ترتجف بقوة .. إنه ذاهب إلى حتفه , لماذا يفقد حياته بهذه الطريقة القاسية , لماذا تحرم طفلته منه , لماذا تصبح زوجته أرملة ولا تجد من يعتني بها .. لكن المجرم يجب أن يعاقب , الضمير يؤلم المذنب ويجعله يعيش في جحيم وعذاب دائم , ولا شيء يوقفه إلا العقاب ... لا بأس , فلتسامحيني يا طفلتي ولتسامحيني يا زوجتي , لن أنساكما أبدا , خرج من ذلك البيت القذر ليواجه القدر .. كان الليل قد حل , لم يشعر بالوقت يمر , ولكن الآن كل ثانية لها قيمة عنده , كل خطوة مهمة عنده , لأنها ستقربه من حتفه المؤلم .

سار بتثاقل عائد إلى قريته , كانت الطريق طويلة جدا , عندما هرب لم يدري كم ركض وكم كانت المسافة طويلة .. قطع نصف الطريق حتى وصل الى مشارف المدينة , كان هناك نهر جميل .. جلس ليستريح , حاول النوم لكنه لم يستطع , تخيل كلام الناس وشتمهم له قبل العقاب .. أنت حقير , أنت نكرة , أنت عالة على العالم , أنت مجرم , لا يجب أن تبقى , يجب أن تموت , إذهب إلى الجحيم ! .. نظر إلى المدينة وفكر .. هل أذهب إليها وأهرب من العقاب أم أعود لقريتي ؟ .. لكن في كلا الأمرين سيلقى العقاب لأن في المدينة هناك محاكم وسجون وتعذيب وقتل .. إذا القرية أفضل , فاليعاقبني أهلي أفضل .

في اليوم التالي أكمل طريقه إلى قريته واليأس والخوف يقتله .. لم يدري كيف وصل بتلك السرعة وكأن الطريق قصرت .. رأى بيته وبيوت القرية مطلة ولم يبقى سوى القليل ويموت .. 

دخل القرية وأخذ ينوح ويصرخ ويتوسل بألا يقتلوه , هم إليه أهل القرية وأخذوه إلى المختار .. دخل إليه وكله خوف , سأله المختار العجوز .. ماذا فعلت ؟ قال .. أرجوك يا سيدي , لم أكن أقصد ذلك .. طفلتي كانت ستموت من البرد ! قال المختار .. ماذا .. وما دخل ذلك بصراخك ؟ قال .. لقد ارتكبت خطئا ولكن أرجوك لا تقتلني .. المختار .. يا بني , لماذا تبكي .. ماذا فعلت ؟ , هيا قل .. قال .. قبل يومين كان الجو باردا وماطرا وكادت زوجتي وطفلتي تموتان من البرد , لم أشأ رؤيتهما تموتان .. حملت فأسا وذهبت إلى الغابة القريبة وقطعت شجرة , لكن لم أقدر على إيصالها لبيتي خوفا منكم .. سامحني أرجوك , لم أكن أقصد الأذية .. ضحك المختار وقال .. يا لك من رجل ساذج , وماذا فعلت لتعاقب .. ذلك شيء عادي , لا تقلق .. والآن اذهب لبيتك .

خرج ولم يصدق أنه لن يعاقب , كان مقتنا أنه ارتكب فعلة شنيعة وجرم كبير , تنفس الصعداء وذهب راكضا لبيته واللهفة تدفعه .. توقف خلف الباب وطرق ونادى .. عزيزتي افتحي الباب لقد عدت , لكن لم تجب .. نادى كثيرا لكن لم تجب , خلع الباب ودخل .. صرع مما رآى , كانت زوجته وطفلته ميتتين من البرد , صاح بأعلى صوته وصرخ حتى التم عليه كل أهل القرية , فر من بينهم هاربا وعاد إلى ذلك البيت الملعون ليجلس ويستمع لأوهامه البئيسة حتى مات على ذلك الكرسي والتهمت الحشرات جسده .

7 تعليقات :

pretty yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم....
قصة جميلة ومعبرة للغاية....
استمتعت بقراءة كل جزءو خـــــــاصة النهاية الغير متوقعة....سعيدة اننى كنت هنا....

فى انتظار جديدك استاذ امجد..وشكرا

amjad yaseen يقول...

أهلا أختي pretty yoyo أتشرف بك دائما

مُسيَّد المومني يقول...

شكرا امجد القصه والفكره غرببه
وخاصه تأنيب الضمير القاسي الذي واجه نفسه به ...والسبب قطعه لشجره
دمت متألقا

amjad yaseen يقول...

أهلا مسيد مسرور جدا لوجودك هنا .

غير معرف يقول...

نهاية غريبة غير متوقعة , لكنها قصة شيقة جداً .. سلمت الأنامل ..
،، نـــورهــ ،،

غير معرف يقول...

السلام عليكم ..قصة جميلة ..لم اتوقع نهايتها .. شكرا وموفق

غير معرف يقول...

القصة رااائعة ..لكن نهايتهاحزينة

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021