14‏/6‏/2012

الإنقراض

.. ألقيت بذاك الوجه الضاحك في قبرها قبل أن يغلق .. لقد كان شيئا عزيزا عليها احتفظت به منذ طفولتها , عشت معها مجرد ذكرى ورحلت , وبقيت ذكرى .. حتى ذاك الحين الذي أتبعها فيه , سأجوب كل بقاع الكوكب أعلق على عنقي وجها ضاحكا .. كان من الطريف أن أعيش بلا معنى .. لكنها أعطتني المعنى , عند نبأ وفاتها صرعت وأدركت شيئا عظيما .. كنت عند القبر وكانت السماء تمطر بغزارة وكل الحضور يلبسون قبعات سوداء .. وقفت حتى رحلوا وبقيت معها وحيدا , دعوت لها وألقيت لها أبياتا من الشعر حتى لم أعد أقوى على الوقوف .. خلعت قبعتي البيضاء ووضعتها بجانبي وجلست على الوحل أبكي بحرقة تامة لم أبك مثلها من قبل .. أتمنى ألا تشعري بالبرد .


لم يكن قراري القديم أن أعيش وحيدا متسرعا , علقت بين الماضي والحاضر وأمضيت سنة وحيدا أجرب أشياء داخل بيتي , أشياء كم وددت أن أجربها دائما , أشبعت فضولي بكل التجارب ولم أكترث لما يقال خارجا .. كنت أمض وقتا طويلا أحدق وكان يراودني عندها شعور غريب لا يمكن وصفه أبدا .. ثم تمتلئ عيوني بالدموع وتنساب بصمت , ربما كن أعيش في حلم أو في حقيقة .. ربما كنت ميتا أو حي .. انقطعت عن كل الأشياء , لم أعد أرد على رسائل البريد وحذفت كل حساباتي من الشبكة وألقيت بتلفازي وهاتفي في النفايات .. أصبحت صورة تنظر لصورة على الحائط , أكتب عن شعوري وأفكاري ونظرتي وأكدس ما أكتبه على الرّف .. وعندما أشعر بالملل ألعب بألعابي التي احتفظت بها منذ طفولتي .. وأضواء النافذة تنعكس على ذلك الطفل الكبير , مجرد شكل اكتسح جسدي لكن الذكريات لم تهجرني .


عاد الشتاء من جديد وكم أحب ذلك الفصل بالتحديد .. يذكرني بها ويذكرني بالمقعد الخشبي المكسور الذي كنا نجلس عليه , يذكرني بالمأساة التي حلت علي .. يذكرني بالفكرة الأبدية التي راودتني .. يذكرني بطائر السنونو الذي مات , يذكرني بالقبر ويذكرني بالوحل ويذكرني بالبرد الجميل .. يذكرني بكل تلك الأشياء التي كانت تنهال علي .. في ليلة واحدة وهي الأخيرة كتبت آخر أفكاري على ورقة ونمت حتى الصباح , كان قراري أن أخرج من عزلتي حتى أزورها في القبر , كان قراري أن أشعر بأني أنتمي لأحد ما , أنني لم أفقده .. أنه لم يصبح ذكرى بعيدة جدا .. أن أكف عن البكاء , أن أتوقع أن هناك شمس جديدة بالخارج أو أناس جدد ... عندما كانت قدماي على الشارع لم أجد أحد ولم أجدها تنتظرني , كانت هناك فتاة مرعوبة تحتضن الجدار من الخوف .. ذهبت إليها وسألت .. ما بك يا آنسة ؟ .. لكنها لم ترد واستمرت في رجفانها , لم أستطع أن أفعل لها شيء وتساءلت .. أين الناس ؟! , سرت طويلا لأرى ما حل بغيابي وأقرأ ذاكرة الأماكن , لم يكن إنسان في أي مكان , العالم خالي جدا .. وقفت مكاني مصدوما وبدأت أبكي بحرقة ثم ركضت بكل قواي كالمجنون , عدت للفتاة وأمسكت بها وخضضتها وصرخت .. بالله عليك ما حل هنا ؟ , أجيبي أرجوك .. قالت لي كلمة صدمتني .. أنت ميت !! .. ثم تبخرت من بين يدي , ركضت بكل قوة متجها إلى القبر .. وصلت وكنت متعبا جدا , لم تكن هناك شمس أبدا .. كما اعتدت , كانت تمطر بغزارة , ولم يكن قبرها هناك أبدا .. بل طين ! أصبت بانهيار عصبي وبدأت أصرخ .. أين أنت .. سمعت صوتا أذكره جيدا فالتفت مسرعا خلفي فإذا هي .. التي ألقيت عليها الشعر والتي جلست بجانبها على الوحل , لم يكن ما أمر به معقولا وهمست .. يا إلهي , لا أصدق عيني ! , ماذا الذي يجري .. كيف .. كيف ؟؟؟!! .. همست في أذني .. لا تسأل .. كانت تجربتك رائعة !! .. ولكن .. كيف عدت ؟ .. قالت .. لم أعد , بل أنت الذي عدت ! .. قلت .. أين كنت أنا ؟ , قالت .. كنت في حلم والآن استيقظت منه , حياتك كانت مجرد حلم , كل الأشياء السيئة التي عانيت منها كانت حلم .. طفولتك ما زالت بجعبتك وكنت أستمع لك دوما وكنت أخبرك أنك أفضل إنسان في العالم , أنت تنتمي إلي .. لا تقلق من الوحدة فلن تعايشها بعد الآن .. إذا .. أنا في الجنة ؟! .. تبسمت كأني أراها لأول مرة تبتسم وقالت .. نعم .



أمجد ياسين

2 تعليقات :

غير معرف يقول...

قصة رائعه كالعاده اخى امجد..
اهنئك حقا عليها..
واردت ان اقول لك اخى ان الذكريات هى الشئ الوحيد الذى يتبقى لنا ممن نحب هى رفات الماضى هى كطيف عابر يمر علينا ليدفئنا من برد الوحده القاتله التى احيانا ما نعيشها فى هذا العالم القاتم..
ومرة اخرى قصة رائعه احسنت حقا..
فى انتظار المزيد من ابداعتك ..:)
noOor

amjad yaseen يقول...

السلام عليكم ..

كيف حالك أختي العزيزة ؟

أوراق الشجر المتساقط في الخريف لا يذهب هدرا بل يسقط ليتحول إلى سماد يفيد الشجرة من جديد ..

سيكون هناك قصص جديدة قريبا جدا

شكرا لوجودك ومداخلتك ..

تحياتي لك

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021