28‏/8‏/2012

دورازين

لما تبكِ الآن , لم يحن الشتاء بعد والأرض شبعت من لحم أختك وبالأمس رحل آخر المعزّين .. اسكت , لطالما أقنعت نفسي أن أسكت , لا أدري لما يقولون أن الحياة ضيقة , فكل ليلة أرى عكس ذلك في النجوم ..

ليالٍ طوال يجلس على سطح بيته المتداعي يحمل قلما وأوراق وعلبة حبر .. على ضوء السراج يرسم ما يراه في السماء .. نقاط .. الكثير من النقاط , ثم يحمل نفسه إلى غرفته الصغيرة ويكتب أسراره .. " لا بد أن تكون هناك نقطة من بين كل تلك النقاط العديدة في السماء مميزة في شيء ما .. ها هي , لقد وجدتها .. لا بد أنها سعيدة , هل تحلم ؟ هل تنتظرني كي أرسمها ؟ .. لك ذلك أيتها النجمة , لكن لم تخبريني ما اسمك , ما رأيك أن أطلق عليك اسما ؟ سأفكر ! ." .


كالعادة وما أسوأ العادة .. يذهب بتثاقل إلى عمله , إنه يعمل عند حداد يشبه السفاحين .. بالكاد يوفر قوت يومه فلديه أب عجوز , كانت الرياح قوية على غير عادة فأحدثت فوضى في شعره , لم يتبق هناك زيت زيتون ليصفف به شعره , المسكين جلب ورقة الأمس ليكمل كتابتها في فراغه , يسرق الوقت سرقة من ذلك السفاح الضخم ... مضى نصف اليوم وحان وقت الإستراحة , جلس بين أكوام الخردة ليكتب , لكنه فجع عندما لم يعثر على ورقته .. إنها الرياح , تبا لها .. اسكت يا غبي , لا تسب الرياح .. ستلقي بك إلى البالوعة .. أساطير قديمة .. عاد في آخر النهار وهو يقنع نفسه بأنه سيعيد رسم النجوم من جديد .. لكن ماذا لو تحركت من مكانها .. غير معقول !! .


ليلة جديدة بدون سراج يرسم النجوم .. ذهل فعلا عندما رآى النجمة قد غيرت موقعها .. ماذا تكون ؟ كوكب أم مذنب .. على كل حال هي جميلة جدا .. "الرياح سرقت ورقتي وتركتني حائرا .. نجمتي زرقاء وتتحرك وما زلت لا أدري ما الإسم المناسب لها .. لا بأس , سأركز في المرة القادمة" .


صباح جديد وبدأ بطرق الباب , كان مسرورا لأن بابه يطرق ..
- من أنت ؟
- أنا (ليلي) سيدي .
أخذ يضحك ..
- هل تكلميني أنا , أنا سيد ؟
- نعم أنت , بالأمس صباحا لمحت ورقة تطير منك وقد التقطتها ولم أتمكن من اللحاق بك .. أنا آسفة , لقد اضطلعت عليها وأعجبت بما تفعله وترسمه .. ألست عالم فلك ؟ .
قال بسخرية ..
- بل عامل في الخردة , على كل حال شكرا جزيلا لك وأقدر لك ذلك .
قبل أن تهم بالذهاب قالت له ..
- سميها (دورازين) سيدي !
قال ..
- من تلك ؟
قالت ..
- النجمة ! .
ابتسم لها وكأن فكرة عظيمة راودته .. أغلق الباب وهو يحدق في لا شيء , ثم فجأة فتح الباب وركض خلفها وهو ينادي ..
- لحظة .. لحظة , عذرا ولكن لما (دورازين) بالذات ؟! 
قالت بحزن ..
- تلك ابنتي قد ماتت وكلي إيمان أنها في السماء .
أشار بيده إلى السماء ..
- هي يا سيدتي , تلك النجمة هي (دورازين) .. آمنت أنها نجمة حية , ربما أكون الشخص الثاني في العالم الذي يهتم بها .. 

 (ليلي) كان اسم أمي يوما .


صوت ينذر بضياع الحلم ..
- بني , بني , (ديلي) .. انهض هيا ..
ثم يحدث اهتزاز ..
- أبي , ما بك ؟
- هيا بني انهض , أنت لم ترسم السماء هذه الليلة .
- حقا , لقد غفوت على غير عادة , هل تهتم برسمي يا أبي .. هذه المرة الأولى التي أراك فيها مهتما ..
قال ..
- نعم أهتم , أنت ترسم وجه السماء , وهل هناك أجمل من السماء .. طوال سنيني مع أمك كنت أخبرها أنها تشبه السماء , كان يعجبني اسمها , (ليلي) .. ظنت في باديء الأمر أن أختك قد ماتت , ومن حزنها الشديد ماتت بعد فترة , لكنا عثرنا على أختك من ضياع الحرب وماتت هي الأخرى بسبب الحمى الشديدة , لقد فقدتهما ولا أريد أن أفقدك ..
- أختي (سارة) , تصدق أبي أني أبكي لهذا اليوم على فراقها , لقد كانت أختا رائعة جدا ..
- أريد أن أقول لك شيئا بني لم أشأ أن أخبرك إياه من قبل .. أختك رحمها الله لم يكن اسمها (سارة) حقا , اسمها الحقيقي هو (دورازين) , أمها اختارته لها وأخفيناه بسبب الحرب ..
ذهب الأب وترك إبنه مذهولا بشدة .. لا تعقل تلك المصادفة , غير ممكن ..
- أبي , أبي .. أنت تمزح أليس كذلك ؟! .
- ما بك بني , أمزح وفي هذا العمر , وهل أخبرتك شيء يحتاج المزاح ؟! ..


ذهب إلى السطح تحت النجوم , نجمته آخذة بالتحرك وتقترب من "بنات نعش الكبرى" .. يرسم تارة ويفكر تارة أخرى .. لا بد أن أبي بدأ يهذي , لكن لما هذا الهذيان بالذات ؟؟! .. "تتحرك كثيرا وهي على وشك الوصول إلى بنات نعش , ما زال أمامها وقت , لا يمكن للمذنب أن يأكلها لأنها أكبر منه .. الشيء الغريب الذي أعرفه أن النجوم لا تتحرك أبدا .." .


 صباح يوم جديد .. في طريقه للعمل تعمد أن يلقي ورقة كانت في يده مع الرياح .. كانت رسالة وكانت تقول .. "أريد أن أقابلك" ... عند العصر طرق بابه وكانت هي , كأنها ظله , تراقبه , تتبع أوراقه المتساقطة , تظنه الخريف ..
قالت له ..
- سيدي , لقد سقطت منك هذه الورقة مجددا وقد قرأتها , أنا آسفة ..
قال لها ..
- عذرا , ولكن من أنت ؟!
قالت بتعجب ..
- أنا (ليلي) .. ألم تعرفني ..
طلب منها أن تنتظره لحظة بينما يجلب والده .. لكن العجب أن والده كان غير موجود , وهذا غير معتادا منه ..
سألها بحيرة واستغراب ..
- نحن في أي عام الآن ؟!
قالت ..
- نحن في عام 1831 , لما تسأل ؟!
- يا إلهي ! لا يعقل .. هلّا تجلسين من فضلك .. أخبريني عن (دورازين) .. حياتها وكيف ماتت ووالدها ..
بدأت تروي قصتها بشغف وكأن فرصة ثمينة فتحت لها ..
- (دورازين) فتاتي الصغيرة والوحيدة لديها خمسة سنين , سيرزقني الله بطفل ذكر قريبا .. لكن لا يمكنني نسيان (دورازين) أبدا ..
أخذت تبكي بحرقة .. عمل على تهدئتها وأكملت ..
- عندما اندلعت الحرب مع روسيا شرد السكان وعمت الفوضى والخوف نتيجة القصف .. لم يكن لدينا ملجأ وبقينا في العراء وفي الثلج .. ضاعت طفلتي مني بين الجموع , في تلك اللحظة تم قصفنا بالمدافع وسقطت قذيفة قريبة منا .. مات الكثيرون ومن بينهم طفلتي ..
قاطعها ..
- ولكن كيف تأكدتي من وفاتها .. هل رأيتها ؟! ..
قالت ..
- لا , ولكن أغلب من ماتوا كانوا أطفال ومتأكدة أن (دورازين) كانت بينهم ..
قاطعها بلهفة وصراخ تقشعر منه الأبدان ..
- لم تمت يا سيدتي .. لم تمت , أمهليني وقتا حتى أجدها ..


مضت الأيام طويلا .. لكنه عاد يحمل أخته التي تكبره سنا , ولكنها أصغر منه بكثير .. يطرق باب (ليلي) وهو يبكي ..
- سيدتي , ألم أخبرك أنها لم تمت .. كنت متأكدا ..
حضنتها وقبلتها في مشهد محزن ومبكي حتى للصخور .. يا للروعة ويا لغرابة ما يجري , أظنني في حلم غريب , لكنني أحيا في الواقع بدون تفاصيله .. عندما انتهى المشهد وهدأت المشاعر طلب أن يرى زوجها .. ذهبت وعادت وأخبرته أنه غير موجود .. بحذر سألها عن اسمه .. قالت ..
- إسمه (آدم) ..
عندها سقط (ديلي) مغشيا عليه من هول ما يحدث ... استفاق في الليل , رآى حوله ضوء سراج وفوقه سماء صافية مليئة بالنجوم .. فجأة لمح نجمته مما جعله يقفز عن سريره .. جاءته (ليلي) تحمل ابنتها وتشكره جزيلا وأنها لن تنسى معروفه معها .. لم يجييها لما أغمي عليه ذلك النهار .. تجول قليلا في منزلها والغريب أنه مشابه لمنزله تماما .. دفعه الفضول لدخول غرفة تشبه غرفته فعثر على أوراق ورسومات للنجوم .. تفقدها فكانت آخر رسمة غير مكتملها ويبدوا أن من رسمها كان مهتما بنجمة معينة .. قرأ من مذكراته .. "النجمة تبقى نجمة ولن أحيا حتى أراها تموت , مسيرتها تقودها إلى التطور .. وستنشأ منها حياة جديدة".. سقطت الأوراق من يده وغط في نوم عميق ..

"أنت عالق في الزمن , يمكنك تغييره , يمكنه لمسه , فأنت لم تأت بعد , والدور عليك وتدور الدائرة , ألم تسمع برياح الزمن , تأخذ أوراقك بعيدا جدا , فتدور الأرض ملايين الدورات إلى الوراء .. ثم تستفيق فتجد نفسك في الواقع تحيا , فتتغير القصص الثابتة عن الماضي , عندها ستحتاج لبحر من الحبر وغابة من الأقلام .. وستمض حياتك تكتب .."

- (ديلي) بني , استفيق .. هناك شيء يحدث في السماء .. !
"استفقت عن نفس السرير وكانت نجمتي تشع بلون أزرق وقد استقرت في مكانها الملائم .. التي أصبحت منارة في السماء تهدي الضائعين في الظلام والتيه .." سقط القلم من يده وغط في نوم عميق ..

- أبي .. استفيق , هناك شيء يحدث في السماء ..
"كانت الأخبار تبث الحدث الكوني العظيم .. نجمتي (دورازين) تحولت إلى مجرة في السماء .. وربما يكون فيها حياة .." .. يتمنى في كل مرة أن تسقط الأوراق من يده , لكنها لا تفعل أبدا .. من رحلوا يصبحون نجمة في السماء وسيولدون من جديد .


أمجــــد ياسين   

5 تعليقات :

pretty yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم..

قصة جذابة فعلاً ..وفاجئتنى أحداثها,غير متوقعة على الاطلاق

سعيدة اننى كنت هنا D:

تحياتى أستاذ امجد

amjad yaseen يقول...

السلام عليكم ..

أهلا بك (بريتي) .. وجودك أسعدني ..
وشكرا لتعليقك .. تحياتي

اعتني بصحتك .

غير معرف يقول...

رجع إيميلگ وحسآبگ ع آلفيس ، آنآ أتآبعگ .. لَا تلغيهم

غير معرف يقول...

آتمنى تشوف رسآلتي هــــذي وتعرف من أنآ :)) ،

amjad yaseen يقول...

السلام عليكم ..


أنا أعرفك أختي جيدا ... لن احذف أي حساب لي ولم أحذف شيء وقرأت رسالتك لي وكتبت رد ..

شكرا لك

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021