13‏/10‏/2013

الأرض المنحدرة

لقد أساءت التصرف , كان لا بد من ضربها .. هي الآن في المستشفى تعاني من غيبوبة دماغية حادة , دع الصورة المكسورة , دعها كما هي تختلط بالدموع والدم , دع ذلك الدليل الجنائي يتكلم .. والمجرم الآن غادر إلى سنغافورة , سينجو كما نجى من قبل ..

ذات ليلة بعد سنة من زواجه غادر المنزل عند الصبيحة تاركا زوجته في رعاية أبيه , لم يكن يدرك أن والده ما زال مختل كما في السابق , لم يتوانى عن إيذاء الأشياء .. عاد (توني) ليجد زوجته ملقاة على الأرض وينزف الدم من رأسها , لم يخيّل إليه أنها انتهت كهذا .. تلقى مكالمة من والده يقول فيها أنه نادم , لكنها أساءت التصرف ثم ذهب واختفى وألغى رقمه ..

إنها القصة الثانية لعذابات (توني) بعد أن قتلت أمه بنفس الطريقة ولم تتخذ الشرطة أية إجراءات .. حتى بدت القصة غاية في الحزن تجرح قلب ومشاعر (توني) الذي عانى من قبل من عذابات نفسية في حجرة التعذيب في القبو القديم , صور تتصارع في رأسه مؤرقة أحلامه وأسلوب حياته .. كان يطلق عليه "صغير" لأنه كبر وشب وهو ملازما لألعابه لأنه يعلم أن ذكرى ولحظات رائعة سلبت منه عن غفلة ولن تعود أبدا ..

أخبر أنه يصعب عليه التأقلم مع أي شخص ومع أي ظرف فقد أمضى السنة محاولا التأقلم مع زوجته , محاولا أن يفهمها وأن يعيد مفهوم الحب المنسي , لكن والده المختل قضى على كل شيء .. على آخر أمل وآخر محاولة للحياة . الآن , أفضل شيء يجب على (توني) أن يفعله هو الرحيل بدون وجهة ولا رفيق ولا طريق ولا بوصلة .. رحلة طويلة لإستكشاف كل شيء فاته ..

إحدى ليالي الجمع يحزم أمتعته في حقيبة ظهر ويأخذ حاجيات زوجته ويغادر .. يترك دجاجاته وبيته وأشجاره , يترك كل شيء ببساطة ويغادر , كالمنوم والمسلوب الإرادة يعكس وجهه صور اليأس والإحباط , يجر خلفه كتلة ضخمة عديمة الشكل تبعث برائحة سيئة تحتوي على كل المشاعر السلبية واليأس والإحباط والعبوس .. إنها رحلة جريئة .


 (توني) في بلاد العجائب 

عند النهر الذي يقود إلى البحر الذي يقود إلى حافة الأرض , يضع قاربه في الماء مستعدا ليغرب عن وجه كل تلك الصور .. عندما تحرك مجذافه في الماء سمع صوت كلبه ينبح راكضا إليه , استسلم وأخذه معه , أركبه في المقدمة وهو ركب في مؤخرة القارب .. وأخذ يجذف وينطلق ورويدا رويدا بدأت الصور حوله تتغير وتتبدل وكل تلك الروائح المعهودة بدأت تتغير , حتى دخل الدائرة القطبية الشمالية حيث البرد الأبيض .. لن تصدقوا ما سيقوله ..

رسى قاربه عند ضفة جليدية , نزل منه حاملا حقيبته ويتبعه كلبه .. كان أمامه منحدرا جليدا ضخما جدا يسد الأفق , بالكاد كانت السماء ترى منه .. اقترب منه مصارعا الهواء البارد حتى أنه حمل كلبه بين ذراعيا خوفا عليه ... واجه حائطا جليدا صلبا ممتدا عن اليمين والشمال بمد البصر .. إنها الحيرة الآن تلبسته حتى أخمص قدميه , يحدق في كلبه الذي يدلي لسانه بسخافة ويقول له ..

- ألديك فكرة ؟

فلم يسمع منه سوى النباح المتكرر , فإن فكرة التسلق غير منطقية ولا يمكن تنفيذها , وفكرة الإلتفاف حول الحائط هي انتحارا ومضعية للوقت , فكر كثيرا حتى يأس ووضع يده على الحائط متأوها .. فجأة , انشق جزء من الحائط كالبوابة ثم انفتح على شيء مدهش جعل من (توني) شخصا أبلها لبرهة .. عند البوابة كان هناك حارسان لا يشبهان البشر , حتى أنه لم يدر إلى أي الكائنات ينتميان .. تكلما معه بلغة خشنة ..

- ممنوع الدخول بتلك الكتلة معك .. تخلص منها !

رد عليهم ..

- أية كتلة تلك ؟ !

لكنهم لم يكترثوا له بتاتا وبقي ملقى في الخارج .. لم يفهم ما يرمون إليه وازداد حيرة حتى حل الليل , نام واضعا رأسه على كلبه الفرائي ملتمسا الدفيء .. رغم البرد إلا أن عرقه بدأ يذرف وللمرة الأولى يحلم حلما حقيقيا .. شاهد زوجته تغطيه ثم تبتسم له .. حلم قصير إلا أنه استهلك الليل بكامله وجعله يذرف عرقا , عند الصباح وجد الحارسان يندهان عليه بالدخول ..

- لقد سمح لك بالدخول بناءا على طلب الحاكم .. أهلا وسهلا بك في بلاد الذر .

عندما خطى أول خطوة في ذلك العالم شعر أنه يمشي على أهداب , إنه خفيف جدا وبالكاد يمكنه أن يتحكم بخطواته .. ابتعد كثيرا عن البوابة حتى وصل إلى منحدر عميق تتراءى في قعره بلاد الذر العجيبة , فجأة رآى أحدهم راكبا مركبة غريبة بجانبه قائلا ..

- أهلا وسهلا بك في بلاد الذر .. هل تريدني أن أقلك ؟

قال ..

- نعم , ولكن ليس معي نقود !!

طلب منه الصعود .. ثم طار به بخفة نزولا عبر المنحدر .. في الطريق سأله ..

- ماذا تعني بالنقود ؟

قال (توني) ..

- مال , شيء له قيمة تشترى وتباع به الأشياء ..

قال له ذلك الشخص ..

- متى وصلت ستعّرفنا على حياتك ومن تكون .. تنتظرك الكثير من المفاجئات والعجائب ..

حط به على أرض مستوية وسط بنايات غريبة يملأوها السكان , الحياة تدب فيها بطريقة عجيبة .. اللون الأبيض الألماسي يطغوا عليها .. تركه هناك وغادر , وسط المجهول يحدق بغرابة مطبقة وبصمت رهيب يخيم على المكان .. يضع كلبه أرضا ويخطوا خطوات متقدما .. يمر من أمام مجموعة من الأشخاص شاعرا بالغربة وبالخوف وبالضياع .. فجأة ينادونه ..

- هي , أنت أيها الغريب .. تعال ..

أشار إلى نفسه قائلا بتردد ..

- أنا , أتكلمونني ؟

قالوا ..

- نعم , هلم إلينا ..

ذهب وجلس إليهم وعينه لا تنفك تتجول عبر وجوههم الغريبة , لا أحد ينتمي للبشر هنا .. حتى أنهم لا ينتمون لكلبه .. تكلم أحدهم مشيرا لكلبه ..

- ما هذا ؟ إنه جميل ..

أجابهم ..

- هذا كلب , إنه حيوان .. لا يتكلم ..

أخذوا يلمسون كلبه من كل جانب ثم بعد ذلك قدموا له شرابا غريبا ساخنا لكنه لذيذ , تناول نصفه ولكلبه النصف الآخر .. بعد برهة بدأ يشعر بالغثيان وبدأت رؤيته تغبش حتى فقد الوعي ..


بعـــــــد شهر ..

في مستشفى تنتمي لهم استفاق ليرى كلبه ممددا على سرير بجانبه والكثير منهم يلتفون حوله ويتمتمون , بينما هو لا أحد يكترث لأمره .. صاح بهم متألما ..

- أنتم , ماذا فعلتم بي , ماذا حل بكلبي ؟

اقترب منه أحدهم هامسا ..

- لديك شيء ثمين , هذا المخلوق يشع طاقة أكثر بمئة مرة من أي شيء موجود في هذه البلاد .. نحتاج إليه , لن نفعل له شيء .. فقط سنقطع أذنه ..

قفز من سريره وخطف كلبه وهرب عبر ممرات ومتاهات حتى خرج إلى الخارج وفي اعتقاده أن أحدا ما يتبعه .. "مجانين , يا لهم من مسوخ مجانين , سيقضمون أذن كلبي" .. وكلبه بالكاد يستطيع الحركة , و (توني) يصفعه مرارا وتكرارا "هيا يا عزيزي , تجاوب معي .. سنخرج من هنا قريبا" .. سار بين الأبنية والطرقات والأماكن حتى ابتعد ووجد نفسه وجها لوجه أمام حائط جليدي ضخم يسد الأفق .. تسائل أين هو صاحب المركبة ذاك ليقله للأعلى وكلبه المسكين متهالك بين يديه .. يضع يده على الحائط الجليدي حتى فجأة ينشق جزءا منه كالبوابة وينفتح على حارسان آخران .. قالا له ..

- لا يمكنك المغادرة , لا يسمح لك بالمغادرة .. 

و(توني) يحدق للأعلى .. ماذا بشأن الحائط الجليدي الآخر فوق .. هناك المخرج .. ارتكز بظهره إلى جانب البوابة ثم جلس في وضع القرفصاء ضاما كلبه بعمق ثم بكى .. لكنه شهد شيئا غريبا وهو أن الحراس تحركوا باتجاها وقاموا بنزع الكلب من بين يده كأنهم يريدون منه أن يتوقف عن البكاء , لكنه لم يتوقف بل استمر .. فلاحظ على وجوه الحراس شيئا كعلامات الخطر ثم حملوه وألقوا به وبكلبه إلى الخارج وأغلقت البوابة ..

الآن هو خارج الحائط الأصم , يحمد الله ثم يحمل كلبه المسكين باحثا عن قاربه , عثر عليه في مكانه وكان الجليد قد اكتسحه حتى أن النهر قد تجمد بالكامل وبهذا فقد الأمل بالعودة ..

أدرك أنه هالك في هذه الصحراء الجليدية فلا العودة تجدي ولا التقدم .. فقرر المسير للأمام متبعا النهر حتى يصل للمناطق الدافئة ويخرج عن الدائرة القطبية .. أثناء مسيره لحقت به كاسحة جليد روسية متجهة إلى أوروبا , كانت الفرج بالنسبة له فأخذ يقفز ويصرخ وينادي ويطلب النجدة ... فأخذوه معهم وانطلقوا إلى الجنوب ..

في الطريق تعرضت الكاسحة لحادث أحدث ثقب في جداره مما دفع الماء للتسرب إلى داخلها .. ومع الوقت بدأت تغرق شيئا فشيئا حتى ابتلعها البحر بالكامل , بينما (توني) متشبثا بكلبه ومغمضا عينيه ويتخيل البرد الشديد والموت الذي ينتظره في قعر هذا البحر .. أثناء الغرق كان يشاهد سطح الماء الجليدي يبتعد ويبتعد وفي هذه الأثناء استفاق كلبه من بين يديه وبدأ يختنق ... ثم خيمت ظلمة رهيبة جدا ..

 الهستيريـــــــــــا النفسية

كانت الشمس تنسل إلى عينه شيئا فشيئا حتى استفاق مرعوبا فصدم رأسه بالسرير .. يتألم بشدة ويتسائل كيف نجى من الغرق , يخرج من تحت السرير وينتصب على قدميه .. وجد نفسه مبلولا ورأى كلبه ممددا في جنب الغرفة , الأكثر غرابة أنه وجد أحدهم يلتحف لحافه وينام على سريره .. اقترب رويدا رويدا ونزع اللحاف ويا للغرابة والصاعقة .. كانت زوجته نائمة فاستفاقت متأففة ..

- (توني) لا تمزح معي , دعني أنام ..

- يا للهول , يا إلهي .. كيف ؟ , ألست ميتة .. هل أنا أحلم أم أنني ذهبت إلى الجنة ..

ردت عليه ..

- ما بالك مستغربا هكذا .. منذ ساعات تناولنا طعام العشاء معا .. يبدوا أنك رأيت كابوسا ..

بدأ يعض على أصابعه من الصعقة , حتى أنه بدأ يلطم نفسه ليتأكد أنه في الحقيقة .. اقترب من كلبه وأيقظه فاستفاق , وجده مبلولا وباردا .. حتى أنه فتح النافذة ليرى في الخارج ثم التفت إلى زوجته .. رأى فيها كل دعاباتها وضحكاتها .. يا للغرابة .. حتى أنها مرت من أمامه وهي تتقول ..

- سأعد لك الفطور , لكن هلّا تكف عن عض أصابعك .. إنها عادة سيئة ..

لحقها إلى المطبخ يسألها عن والده .. فقالت له بهدوء ..

- ما بالك , رحل إلى سنغافورا منذ أسبوع , هل نسيت بهذه السرعة ..

سألها ..

- أين أمي ؟

قالت ..

- (توني) عزيزي , يبدوا أنك مشوش الذهن ولم تنم جيدا .. كعادتك تتسلل ليلا للخارج ولا تنام جيدا ..

قال لها ..

- اسمعي عزيزتي , سأعود .. لن أتأخر ..

أخذ كلبه وخرج إلى المدينة , لفتت انتباهه إحدى الصحف تقول .. "غرق كاسحة جليد روسية ليلة أمس في منطقة القطب الشمالي والأسباب مجهولة .." .. يبدوا كالذي يعيش في مكانين .. يبدوا كالمنوم , كفاقد السيطرة على عقله .. يشعر أن عينه تكذب , تمنَ لو كلبه يتكلم ليخبره عما جرى معهما ... ابتعد به إلى البرية في مكان تبدوا فيه الشمس جلية .. يحدق إلى الشرق وفي كل لحظة تتغير الصورة ..

"إنك عالق , إنك عالق"




أمجد ياسين

8 تعليقات :

غير معرف يقول...

جميل ، لطيف جداً
استمتعت بالقراءة
^^

Pretty Yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم...
والله و بدون أى مجاملات قصتك مدهشة بمعنى الكلمة أستاذ أمجد..ومسار أحداثها المميز فاجئنى كليا..

كل عام وانت بخير..بالتوفيق
تحياتى

amjad yaseen يقول...

السلام عليكم ..

شكرا أخي/تي الغير معرف , سعدت بوجودك ..

*************

شكرا أختي (بريتي يويو) , شكرا على إعجابك بالقصة .. وكل سنة وأنتي طيبة ..

ليلة سعيدة

اعتني بصحتك

غير معرف يقول...

لا اعرف بالضبط ما هو التعليق المناسب للقصة .. لكن القصة فتحت بعدا اخر للتفكير عندي
شكرا لك من القلب .. اخوك امجد

بشرى رشدي يقول...

احييك على خيالك الخصب و قصصك الرائعة
نكون ممتنين لحضرتك لو تكتب لنا تدوينة عن عناصر القصة الجذابة
انا حاليا اعمل على رواية تاريخية

غير معرف يقول...

قصه مدهشه تأخذك الى عالم اخر
ولا اعلم ان كان هناك اجزاء اخرى او لا
ولكن اتمنى ان اجد لها اجزاء اخرى
على كل حال القصه جميله واستمتعت بها جدا
شكرا لك ...
ولك تحياتى
احمد

amjad yaseen يقول...

السلام عليكم أخي أحمد , كيف حالك ؟

شكرا لإعجابك بقصتي .. فالقصة من كتابتي الشخصية وليست اقتباس
سأفكر بكتابة أجزاء أخرى لها

شكرا لك

Unknown يقول...

السلام عليكم

القصة حقا جميلة ... لكن اتري ؟ رأيتها مسبقا ... لا بل قل ..عشتها مسبقا !
لسنا جميعا نري نفس الاشياء ولا نفس الاماكن .. حدث لي هذا لكن طبعا بدون زوجة او كلب .. كان معي صديق لي .. انا لا اعرفه ولا اعرف كيف كان يجب ان يكون صديقي .. وكيف عرفت وانا هناك انه صديقي ؟... لكن الامر حدث .. احداث قصتي اطول واغرب واكثر رعبا (القصة حقيقة)

لكن القصة هنا حقا ممتعة وجميلة... تابع الابداع :)

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021