وقبل أن أذهب إلى حيث وجب أن أذهب رأيت انعكاسي .. فاكتشفت أنه أنا , هزيل وتعب هدته الآلام الكثيرة..
لم كل هذا السعي .. لقد كنت أنا .. فقط أنا ولا شيء آخر ..
هرب كل شيء مني .. عجبت مني عندما وجدتك وأحببتك .. لكن أنت أيضا هربت , وتركتني محدقا في نفسي بعجب ..
إنه الإيمان الأول الذي رأيته .. أنني غريب وسأبق غريب للأبد ..بلا تفاصيل ولا ظل ..
كنت جالس في على سفح جبل صخرى .. أنظر للنافورة التي تخرج الماء منها وينزل نحو الوادي .. إن عقلي يضج بالأسئلة والتفكير حول ذلك الذي زارني قبل الزمان كله , شيء لم أراه ولم أسمعه ,فقط أوقظني من نومي ومن وقتها أشعر أني غريب .. يومها رأيت انسلاخي ينقسم ويختفي ولا أدري أين ..
لقد أدركني الوقت وأنا أفكر واقترب الليل .. قررت النهوض والعودة ولا أدري أين , لكن جسدي لم يطاوعني على النهوض , كأنه أصابه الشلل ..تشبث بالأرض بقوة .. أصبح ثقيل , لكني لم أشعر بفزع ولا رهبة .. إنها رسالة لكي أنتظر , فهناك ما سيأتي ليجيب على أسئلتي .. إنه القديم الذي جعلني غريب أشعر به دائما كلما حضر ..
توقفت النافورة وتوقف الماء , ولم يأت الليل ولم يذهب النهار .. ولا الشمس تحركت ولا القمر .. وضج الوادي بالإهتزاز خشية من الذي حضر ..
سمعت صوت من لا مكان يقول .. يا مسوجبار يا حبيبي , لقد حضرت .. أرني آلامك لأداويها ..
اقشعر بدني من صوته وتراقصت شفتاي وانعقد لساني وتغرغرت عيناي بالدموع .. ثم صرخت بصوت وبلا صوت ..
يا قديم لم تزورني .. كل آلامي هي بعدك عني .. إنك تعرف وتريدني أن أعرف , لقد جلبتني لهذا الوادي لتخبرني لم عساي أتألم .. إنني أبكي فقط شوقا لك ..
قال لي .. إن انسلاخك الذي هرب منك موجود في الشمس .. ابحث عنه ..
هنا تركتني الأرض وطاوعني جسدي .. وحل الليل , نهضت وعدت إلى غرفتي أفكر حول الشمس .. من هي ومن تكون ..
سمعت صوته مجددا .. يا مسوجبار يا حبيبي , اقرأ كتابي الذي داخل قلبك .. ستجد الشمس ..
إنه الكتاب العتيق الذي لا ينفك يلتصق بي , عتيق جدا مليء بالرموز والكلام الغير مفهوم , حملته وجلست تحت ضوء خافت أقرأ فيه .. لكن هذه المرة أرى معاني , أرى كلمات , أرى كلام .. منذ سنين لم أرى هذا ..
كلام لا يسعني أن أقوله لكم .. لكن مذكور في فصل من الفصول (سفر الشمس) ما نصه : "وولدت الأرض بذرة جميلة هي سر الجمال كله .. اختارها ذلك الإنسلاخ المفقود وسكن فيها .. كان عام فيه صيف بلا قمر وشمس بلا حجب .. حتى يرى صاحب النور نوره في الظل والعتمة .. وإليها سيهتدي .."
هذا ما كنت أريده .. لأن ألمي له علاج لا أنفك أبحث عنه ..
في الصباح قبل أن يستفيق الصباح , ضببت أغراضي العثة وتركت رسالة لأمي أنني مغادر وربما أعود .. وتركت لها أثر يطمئنها علي ..
سرت بين ضجيج المركبات وخطوات الناس .. لا الأرض تحتويني ولا ما أراه .. كأنني خفيف وشفاف , أدخل من باب وأدخل إلى آخر حتى انجلى أمامي المطار ولا أدري لأي بلد أنا ذاهب .. لكنني ذاهب لشيء يقودني إليه ..
جلست بقرب الغيوم أرى الأرض تحتي تتحرك .. أغمضت عيوني لأكلمه .. لكنه بادرني بالكلام ..
يا مسوجبار يا حبيبي .. اسمها نوارة الأيام ..
هنا أراني إياها .. أراني شكلها .. أراني بيتها وأراني كل شيء .. إنني ذاهب في الوجهة الصحيحة ..
إنها فتاه ..
هنا سمعت صوت صراخ واهتزازات .. يبدوا أن الطائرة تسقط ..
سمعت صوته مجددا .. يا مسوجبار يا حبيبي .. سترى ..
أغمضت عيني ولم أجزع .. ليست النهاية هنا ..فأنا لم أبدأ بعد .. وليس كل ذلك البكاء عبثا ..
لم أعد أسمع شيء , صوت مركبات .. عجيب , فتحت عيني إذا أنا وسط شارع .. لا أدري أين ولا كيف ..
سرت ساعات في كل مكان أبحث عما رأيت .. سألت ورحت وجئت حتى وصلت لبيت قديم ..
قديم جدا , إنه الذي رأيته .. طرقت الباب , ثم كررت الطرق وكررت .. حتى فتح أحدهم الباب بتثاقل .. رجل عابس الوجه , نظر إلى وقال .. ماذا تريد ؟
ماذا عساي أسأله .. لكني قلت .. هل هذا بيت نوارة الأيام ..
توسعت حدقة عينه وتغيرت ملامح وجهه وقال بصوت جهم ... إنها لم تولد بعد ..
ثم أغلق الباب في وجهي ..
عدت أدراجي ببطء حتى لمحت شيء خلف نافذة البيت ...
انتابني الذهول والصمت .. إنها هي تنظر إلي .. تبتسم , تنادي علي ..
تقدمت منها ببطيء , كم هي جميلة ..مدهشة .. أعطتني ورقة وقالت .. يا مسوجبار يا حبيبي , ستجدني عندما أولد ..
استفقت على ضوء الشمس في عيني ... إنه الصباح
أمجد ياسين