20‏/7‏/2011

الوطن الضائع

شيء ما سقط قريبا مني , كنت طفلا لا أفقه شيئا , لم أعتد رؤية مثل تلك الأشياء , عشت طيلة السبع سنوات في بلد آمن لا أرى فيه سوى الإبتسامات , ذلك الشيء الفظيع عندما سقط ألقاني بعيدا , لقد أحدث خرابا وفوضى وأشعل نارا كبيرة .. عندما استفقت كان كل ما حولي هو الدمار والغبار والدخان والنار , والأسوأ من ذلك كان هناك أناس ميتون وكان هناك دم أحمر كثير , الشرر كان يتساقط حولي كالمطر , وأناس يرقضون ويتدافعون وصرخات النساء والأطفال تعلو وتسكت , وتلك الأشياء المجنونة لم تنفك تسقط على قريتنا , لم أصب بأي أذى , لكني اكتشفت أني أصبحت وحيدا بلا أم ولا أب ولا أخ , حتى بيتنا وأرضنا الصغيرة تحولت إلى نار مشتعلة .. نهضت وسرت حيث يسير الناس , كان الكل خائف , لم أدري ماذا حصل ولماذا حصل .. سرت وكل ما أنظر إليه هي وجوه الناس لعلي أجد أمي أو أبي أو أخي , الجميع مسرعون ويحملون على ظهورهم حاجيات كثيرة وكأنهم سوف يهاجرون .. تسائلت أين يذهبون ولم يذهبون , والأرض والمنازل والأشجار , هل تخلوا عنها بكل تلك البساطة .. لفت انتباهي أن معظمهم قد علقوا مفاتيح بيوتهم حول أعناقهم , سمعت أحد كبار السن يتمتم "سوف نعود!" كان يتشبث بمفتاحه , لم تدخل تلك النظرية رأسي أبدا , المفتاح لا يعيد الأرض ولا يعيد من تشردوا , الإيمان والقوة والمعرفة هي من تعيد الأرض , لذا لم تعجبني فكرة التهجير والشتات , تخلفت عن الركب .. كنت طفلا فضوليا , أردت أن أعرف من هؤلاء الذين تسببوا بكل هذا , ركضت بعكس التيار وكأني عائد إلى الجحيم , لكن صورة الجحيم التي أمامي أسوأ ! , اختبأت خلف أحد الجدران وحاولت أن أراهم من بين الدخان والغبار الكثيف لكني لم أستطع , كان عقلي يخبرني بشدة أن هناك خطب ما لا بد أن أعرفه , لم يفسر لي أحد ما الذي يحدث .. تعمقت داخل الدخان والفوضى حتى سمعت صوتهم , كان صوتهم كالصرير المزعج , أخذوا يقتربون ويقتربون حتى ظهروا من بين الغبار , شيء كبير ومخيف مجنزر بالحديد وله خرطوم طويل , كان يطلق تلك الأشياء الرهيبة باستمرار , كانت كالمطر  .

توقعت بأي لحظة أن أتحول إلى أشلاء , لكن عين الله كانت تحرسني , شعرت بقوته معي .. تلك الأشياء كانت تنحرف عن طريقي وتسقط بعيدا .. في نهاية المطاف لم أرى نفسي إلا وأنا أمام تلك المجنزرة بالحديد تسير نحوي ثم توقفت قريبا مني , نزل منها شخصان يلبسان ملابس غريبة , تكلما مع بعضهما وكانا يشيران إلي , أغمضت عيني حتى لا أرى ما سيفعلانه بي , حملاني داخل مركبة أخرى مختلفة ووضعاني بين رجل وامرأة وكانا يبدوان أنهما مرموقان وذو شأن , سرت تلك المرأة جدا بي وأخذت تتكلم مع الرجل ... مرت الأحداث حتى أصبحت في بيت تلك المرأة وذلك الرجل , أصبحت إبنا لهم بالتبني , كل أؤلئك الغرباء الذين قدموا من مكان ما قد أخذوا بيوتنا وأرضنا وأشجارنا وغيروا الأسماء كل الأسماء , بينما المهاجرين في الأرض الأخرى يحملون المفاتيح وينتظرون قرار العودة , لكنهم سينتظرون طويلا وطويلا جدا لأنهم لم يستمعوا لي عندما أخبرتهم أن المفاتيح لا تعيد الأرض .

في يوم ما راقبت غروب الشمس وشاهدت الشفق الجميل يصبغ السماء والغيوم باللون الأحمر , كم هو جميل ذلك المشهد , كان يبعث الأمل في قلبي , لم أكن مسرورا أبدا مع أؤلئك الغرباء لأنهم تصرفوا بقسوة معنا .. كان غدا هو ذكرى ميلادي الـ 11 وسيقيمون لي حفلة كبيرة .. نمت منتظرا الغد .. نمت طويلا وبعمق حتى استفقت كباقي الناس , أبعدت الستائر عن نوافذ غرفتي حتى أنعم بنور الشمس , لكني تفاجئت بكون الدنيا في الخارج أصبحت حمراء كلون الشفق , هممت لأخبر تلك المرأة التي لم تكن بيوم من الأيام أمي ولا ذلك لم يكن أبي .. لكن لم أجدهما في غرفتهما , خرجت للخارج حافي القدمين وكان الخوف يتملكني .. ماذا جرى للعالم ؟ .. السماء كانت تمطر غبارا أحمر في كل مكان , محلات مفتوحة وسيارات متوقفة وبيوت مضيئة لكن بدون أناس .. لقد اختفوا , لقد أكلهم ذلك اللون الأحمر .. عدت إلى بيتي وإلى غرفتي وجلست عند النافذة لأشاهد ذلك المنظر الغريب .. لقد رحلوا عودوا الآن .. لكن كيف يسمعونني ومن يسمعهم صوتي , ومن يحتفل معي بعيد ميلادي .

3 تعليقات :

pretty yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم....

قصة جميلة...ولا اعرف لماذا شعرت بشىء غريب وانا اقرأها...
فى شىء مختلف عن جميع قصصك السابقة ولكنى فشلت فى تحديده...

كما انها تصلح كقصة لفيلم....
تحياتى....

amjad yaseen يقول...

مرحبا أختي pretty yoyo كيف حالك ؟

يهمني أن أعرف ما هو ذلك الشعور , أوصفيه لي ..

أنا وضعت رسالة في تلك القصة في إشارة للاجئين الفلسطينيين , في يوم كنت أعير جدتي وأحمل جيلها القدماء سبب ضياع فلسطين وسبب تشتتهم , بسبب قلة الوعي والخوف , واليوم الجميع يهتف بحق العودة ويحملون المفاتيح , لكن أظن أنه من المستحيلات العودة , لو صمدوا في أرضهم وقاوموا لما كانت هنا إسرائيل ولا إحتلال ولا معاناة ..

--------------

قليل من يفهمون الفن , أنت من أؤلئك القلة أختي بريتي , القصة ليست مجرد قصة وليست مجرد تسلية بلا معنى , كل قصصي فيها رسالة ما أتركها للقارئ ليكتشفها .. شكرا

pretty yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم....

معلش على التأخير لظروف عائلية قـاسية....


بما انك تعنى اللاجئين الفلسطينيين....فاعتقد اننى عرفت سبب شعورى الغريب...
انه نفس الشعور الذى ينتابنى كلما جاء ذكر الاحتلال الاسرائيلى بأى شكل مباشر او غير مباشر...وانا للصراحة شعرت ان القصة لها علاقة بذلك...
ربما شعور بالخيبة...بالتقصير....لا ادرى..مزيج من اشياء عدة....

ولكنى اختلف معك كثيرا.....اعتقد انك اخطأت لأنك حملت جيل جدتك القديم المسئولية....
اخى ماذا تتوقع من شعب اعزل غير مستعد يباغته عدو شرس مسلح باحدث الاسلحة تسانده اقوى دول العالم؟؟...
عندما نضع تلك المقارنة الغير عادلة فى الاعتبار....ستجد انهم بذلوا اقصى ما يستطيعون للصمود فى ارضهم ...وكان هذا ليحدث لو كانت اى دولة عربية اخرى فى مكان فلسطين....

وهناك نقطة مهمة للغاية....كيف تنسى انكم عرب قبل ان تكونوا فلسطينيين؟؟؟ ان اردت ان تحمل احدهم المسئولية...فلما لا تنظر لحكام العرب وتاريخهم الطويل من التخاذل المستمر؟؟؟
صدقنى المشكلة ليست فى العرب بل فى حكامهم....نحن نريد التحرك ولكن كيف وليس لدينا قائد؟؟؟فيصبح اكثر ما نستطيعه مقاطعة المنتجات الاسرائيلية!!

وبالنسبة لمشكلة قلة الوعى...فانها جزء مماذكرته تواً...الوعى كان قليل فى الوطن العربى كله ومازال كذلك عند كثيرين...والتشتت الذى تعانون منه هو صورة مصغرة لما يحدث فى العالم العربى الذى فلسطين جزء منه...

انا اذكر كتاب التاريخ الكبير الذين كانوا يحشرونه فى ادمغتنا...كان به بابا كاملا بعنوان "النزاع العربى – الاسرائيلى".....وضعوا كل الاحداث منذ لحظة الاحتلال حتى الآن...ولكن هل حاولوا اخبارنا بواجبنا وزيادة وعينا؟؟ هل حاولوا اخبارنا ان رؤسائنا سبب اساسى فى استمرار المشكلة الفلسطينية؟؟ طبعا لا...لقد كانوا يخشون ذكر اسم رئيسنا المخلوع باى سوء فى المدارس فلربما كنا مراقبين...

ليست مشكلتنا هى الاحتلال الاسرائيلى......بل هى تخاذل قادة العرب.....ان تخلصنا من المشكلة الرئيسية ...زالت الفرعيات....

تحياتى اليك

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021