5‏/4‏/2012

اسكيما


.. لماذا تشغل نفسها في تفحص نباتات الحديقة , بينما الجميع لا يلقي بالا للطبيعة ؟ , وصورة مئات السيارات المركونة هنا وهناك تثير الشعور بالإشمئزاز في نفس الإنسان .. وأصحاب البذلات لا ينفكّون يذهبون ويعودون من وإلى مكاتبهم بشكل ملل .. كلّ ينظر من نافذته وكلّ يفهم على طريقته ..


يوم بدون تاريخ لأنها ألقت الرزنامة في سلة المهملات ! فيدها ملّت من التشطيب على الأرقام والأرقام تدفعها للأمام كلما وضعت خطّا عليها .. تنزل مسرعة تجر حقيبتها الثقيلة فربما تأخرت عن حصتها فهي لا تحمل ساعة .. من بعيد تلقي نظرة أخيرة على بيتها الخشبي .. تطرق الباب وتدخل وتلقي التحية .. لقد تأخرت فعلا .. برغم تعاستها إلا أنها المفضلة لدى المعلمات لشدة ذكائها .


** في المدرسة **

حصة التجويد , الساعة 10.45 دقيقة صباحا .. حان دور (ريم) في القرآة والجميع ينصت بشغف كبير , كان صوتها أجمل ما قد تسمعه أذنا إنسان .. تجعلهم يبكون ويبكون وها هم يبكون والأستاذة تبكي .. كان شعور جميل أدخلته على الطالبات ..

الجرس يرن والجميع يمسح دموعه , قبل أن تغادر الأستاة تربت يدها على رأس (ريم) .. لقد كانت سعيدة جدا لكنها لا تبتسم , كل الذين بكوا بسببها لم يبكوا عن حزن ولكنها عاطفة الإعجاب ! ويسرها كثيرا أن يعجب الناس بها .. لقد كان يوما قصيرا حقا وها قد انتهى ..


**في المنزل**

على سريرها تجلس وتحمل رسالة من والدها .. والدها الذي سافر إلى الهند ولم يعد بعد , وأمها تطلّقت .. كانت رسالة وهدية .. "بنيّتي (ريم) , أعلم مدى اشتياقك لي ولا تتخيلي مدى شوقي لك , لكنها الظروف وسعيي لأجعلك سعيدة دائما .. احتفظي بهذه الرسالة ولا تنسي الإعتناء بالنباتات , ستفهمين ماذا ستفعلين وماذا يجدر بك أن تفعلي .. هناك هدية في الزرف احتفظي بها أيضا . والدك . 1 تشرين أول 1994 * مع أني أعرف أنك لا تحبين التواريخ" .. قرأتها وبكت بحرقة .. سأكون أسعد فتاة عندما تكون بجانبي , المال لا يجلب لي السعادة , أحتاجك أبي .. لكن ليس كل الأهالي يفهمون أبنائهم !! .


**الهدية**

لماذا تحدّق فيها , فهي مجرد قطعة من الخشب ؟! ما يثير فضولها كلمة محفورة على الهدية , مكتوب عليها هذه الكلمة "اسكيما" .. الهدية أكبر من كونها هدية والكلمة أكبر من كونها كلمة , لقد علقتها على عنقها كذكرى .. لا تلوموها إن اعتنت كثيرا بالنباتات , فهي فقط ستخبرها ماذا تفعل وماذا يجدر بها أن تفعل .. هي ستسعد حقا في ذلك اليوم والصباح بات قريب .. سترون ابتسامتها وستفهمون غموضها وستحدثونها أخيرا .. ستعود أفضل فتاة وستسمعون ضحكاتها .. لا تظنوا أن تلك معجزة , الأمر يتعلق بالهدية !! .


**الخريف**

.. استفاقت (ريم) على صوت عصف الرياح خارج نافذتها , كانت رياح صفراء قادمة من الشرق البعيد ,رياح أثارت الفوضى في كل مكان .. ملأت حديقتها بالنفايات القادمة من بعيد , نفايات أبى الناس أن يلقوها في مكانها الصحيح .. هكذا تبدوا الأمور من نافذتها , الشوارع فارغة والرياح الحارقة تنخر زجاج نافذتها .. لقد كانت تحملق طويلا في هذا المشهد ويداها على خدها كاليائسة , بعد أشهر من الترتيب جائت الفوضى لتدمر عملها المنظم .. ارتدت ردائها الأحمر ذي غطاء الرأس وخرجت لتفقد نباتاتها .. لقد كانت ذابلة من تلك الريح الجافة , حزنت (ريم) وأخذت تتحسس بيدها كل ورقة وكل بتلة زهرة بحنان .. عزيزاتي ما بكن ؟! لا تمتن ! ليس الآن .. أمسكت خرطوم الماء وأخذت تسقيهن طوال النهار وغسلت بيتها الخشبي ... في المساء هدأت العاصفة وأيعنت نباتاتها من جديد , بعد عناء عادت (ريم) إلى النافذة لتحملق مجددا , هذه المرة كانت مبتسمة , مبتسمة حقا والقمر ينير على وجهها لتبدوا ابتسامتها جميلة من بعيد ..


**رسالة**

في يوم ربيعي جميل ومليء بالخضرة التي تعشقها (ريم) , تلقت رسالة جديدة من والدها جعلتها تطير فرحا .. قالت الرسالة .. "كيف حالك عزيزتي ؟ لقد غبت عنك كثيرا وكان بودي مراسلتك بكل لحظة , أما زلت تحتفظين بالهدية ؟ .. تأملي بها يا (ريم) وافهمي لما أرسلتها لك .. مع أني لم أخبرك قبلا لكن سأخبرك الآن .. طفولتي لم تكن جيدة أبدا ولم ألق الحنان والمعاملة الجيدة , عشت في صراع وخوف وإحباط .. لكن جاء يوم تلقيت فيه هدية من شخص عزيز , هي نفسها الهدية التي تملكينها .. أخبرني أن أفهم وأن أعي , وبنفسي فهمت ووعيت وأدركت أن حياتي ملك يدي وأن الله معي , لذا عزيزتي تغيرت حياتي وأردت بناء نفسي والخروج من عزلتي , وأكبر إنجاز حققته في حياته هو أن أنجبتك , لذا أخبريني الحقيقة عندما أعود وسأعود قريبا جدا , هل فهمت ماذا تعني "اسكيما" ؟ . أحبك . والدك . 3 نيسان 1995" .


**اسكيما**

.. نعم لقد فهمت عندما استيقظت ذاك الصباح الخريفي المغبر , وأيقنت أن النجاحات في حياتنا لا بد أن يتخللها انتكاسة بل انتكاسات , لكن "اسكيما" جعلتها تعيد ترميم أخطائها عندما أصبحت تتطلع قدما وتؤمن بما تحب وتأمل السعادة عند رؤيته .. (ريم) كانت تحب نباتاتها جدا ومنها فهمت كيف تبقي على السعادة رغم القسوة والفوضى , يمكن إعادة ترتيب أوراق القصة من جديد حتى لو بعثرها الهواء مئة مرة , فالهواء يدفعك للتصميم والتمسك بقصتك .. وبهذا نمت مخيلة (ريم) من جديد وباتت صديقة الدفتر والقلم وتكتب وتقص ما تكتبه على نباتاتها حتى تبقى يانعة .. وفي المدرسة أخيرا مالت للصداقة والمجتمع , لقد شاهد الجميع ابتسامتها أخيرا , لقد ضحكت وبانت أسنانها البيضاء .. في المنزل باتت تنام بدفيء وتحلم بذلك اليوم الذي يأتيها فيه والدها .. ربما كلمة تغير مجرى حياة ! .. لقد تغيرت (ريم) فعلا وباتت أفضل فتاة لأنها أدركت أين الخطأ في الحياة وأدركت أن لكل خطأ صواب ولكن إن اقتنعنا أن الخطأ هو الصواب سنعيش في فوضى حقا ..


**ذكرى الميلاد**

.. كان الجميع مدعوا .. كل زميلاتها وصديقاتها ومعلماتها وكذلك دعت نباتاتها لحفلة كبيرة , لم يصدق الجميع وهم يشاهدون (ريم) تغني وتضحك والجميع شاركها فرحتها .. أمها كانت معها ولكن لن تكتمل فرحتها بدون عودة والدها , لذا تركت له قطعة كعك كبيرة جانبا .. في ذاك اليوم الرائع لم تنس كتابة قصتها في دفترها الذي حمل عنوان "اسكيما" ..


**العودة**

في المطار تنتظر بترقب ولهفة وشوق وأمها كذلك , لا بد أن نتغلب على المشاكل في لحظة حب وشوق ... الساعة التاسعة صباحا يطل والدها من بعيد مبتسما جدا , لحظة لا تنسى وتدمع لها العين .. لقد احتضنته بشوق كبير وبكت كثيرا , بات والدها يمسح دموعها ومن دموعها سطرت ذكرى لقصة جديدة .. عادت لحياتها ولسعادتها وأمانها السابق , اكتملت فرحتها وحياتها عندما قرر والدها أن يعيد أمها لعصمته .. هكذا تجتمع الأسر بعد لحظة غياب ليولد الشوق من جديد ويمتلك الأطفال العالم بين يديهم ..


**الزواج**

3 نيسان 1999 , تزوجت ريم وشهد الجميع حفل زفافها , كم هي سعيدة وحزينة في آخر لحظة وهي تحتضن أمها ووالدها لتذهب إلى عش زوجها , لا بد لها أن تحبه جدا لتكتمل حياتها .. لقد كان حنونا معها وحبها حبا جما لأنه رآى منها الإنسانة المثالية لحياته , لذا عاشت أميرة في مملكتها ..

بعد سنتين رزقت بإبنة جميلة جدا أسمتها (اسكيما) لأن لتلك الكلمة أثر كبير في حياتها .. ستسعد ابتها وستجعلها تشعر بالحياة ولن تتركها للحظة , فالتجارب السيئة لا يجب أن نكررها أبدا , يجب أن نبدأ تجربة جديدة في كل لحظة ..


**الكتاب**

اكتمل كتابها الكبير المحتوي على قصص روت فيها كل لحظة عاشتها , لقد باتت ناجحة في حياتها وباتت كاتبة والجميع يحمل كتابها بين يديه ويبارك لها .. قبل أن تنام ابنتها تقرأ لها آخر صفحة من الكتاب .. قبلة على خد (اسكيما) وتطوي الكتاب .. ليلة سعيدة .. 




* ملاحظة : سأتغيب بسبب الإمتحانات , شكرا للقرآءة .

أمجد ياسين



7 تعليقات :

pretty yoyo يقول...

بسم الله الرحمن الرحيم...
السلام عليكم استاذ امجد...
قصة عظيمة جدا جدا بلا مبالغة....ومؤثرة كذلك....ولا اعرف لماذا شعرت انها تختلف فى شىء ما عن باقى قصصك...ولكنى لا اعرف ما هو...

اتمنى لك التوفيق فى امتحاناتك....وارجو الا تغضب لاننى تأخرت فى التعليق على قصتك ^_^ فقد كنت اعرف بوجودها ولكننى للأسف لم اتمكن من قراءتها الا الآن فقط...اصبحت مشغولة جــــــدا واشعر اننى اعيش فى دوامة!!!

شكرا لك اخى...وبالتوفيق دائما...^_^

amjad yaseen يقول...

وعليكم السلام ..

صباح الخير أختي العزيزة (بريتي) كيف حالك ؟

رأيك جميل بالقصة وهي مختلفة لأني كتبتها في لحظة احتقان واختناق .. طبعا السبب أشياء كثيرة جدا .. وفي اللحظات التي لا أكون فيها صافي الذهب فإني أكتب ومعظم قصصي كتبتها في لحظات مشابهة .. ربما الشعور السيء ينمي المخيلة كثيرا ..

وأنا لا أغضب ولا أزعل ولا أحقد , هذه الصفات ليست موجودة في إلا الغضب قليلا .. فقط أحزن على الأشياء .. وتأكدي أني لم أحزن لأنك لم تعلقي , فالأمر ليس إجباري وأنا لا أجبرك على التعليق ومن الخطأ أن تفكري أنني سأغضب , لما أغضب ؟؟ أليس كذلك .

الدوامة يجدر بك الخروج منها حتى لا تبتلعك وتلقيك في قاع المحيط .. لأنه لا وجدو للأوكسجين في قاع المحيط .. لذا جدفي بعكس التيار بقوة وستخرجين منها وأؤكد لك وأضمن لك أنك ستخرجين منها ... هذا الشعور عايشته في يوم ما من قبل ..

يوم سعيد واعتني بصحتك .

شكرا

غير معرف يقول...

رآئــع أمـجد يــآسين :)) ,,

وعـجبت حـقآ لكلمتكـ هـذهـ (وأدركت أن لكل خطأ صواب ولكن إن اقتنعنا أن الخطأ هو الصواب سنعيش في فوضى حقا ) !! ,, عــجبي يآبن يآسين !!

أنـت في نـظري كـ ملآكـ :)) ,,

amjad yaseen يقول...

شكرا لك أخي/تي الغير معرف ..

شكرا جزيلا .. لقد أسعدتني بقولك ..

تحياتي لك واعتني بصحتك رجاءا

mohamad يقول...

ماشاء الله
روعة وقمة الإبداع .. مررت على المدونة بالصدفة إلا أنها إستوقفتني بصراحة ..
اتمني لك المزيد من الابداع والعطاء ..
نحن في الانتظار
شكرا لك

غير معرف يقول...

السلام علیکم ورحمه الله وبرکاته اهديك،

السلام علیکم ورحمه الله وبرکاته اهدی الاستاذ المفکر امجد یاسین اعطر التحیات منی ومن
افراد اسرتی متمنین لک السعاده الابدیه والقصه قمه من الروعه

amjad yaseen يقول...

وعليكم السلام ..

شكرا لك ولأفراد عائلتك .. أنت طيب وأعجبني دعائك فهو جميل جدا ..


تحياتي

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021