27‏/12‏/2012

المحرقة

مرحبا , أدعى (إيفان) , عمري 21 عاما , التاريخ 1-12-2121 . سأروي قصة ليست بالبعيدة .. يوم عاد أخي من رحلة إلى المريخ استمرت 5 سنوات وحط مكوكه الفضائي على المدرج , لم تكن هناك فرق استقبال ولا إسعافات أو كل تلك الأمور المعهودة , فقط وجد المدرج أرض سوداء محترقة , لا فرقة مراقبة أو شيء .. لم يكن هناك أحد , حتى أنه لم يعهد سماء الأرض بهذا اللون المائل إلى البرتقالي ... تعطل مكوكه فورا وهرع إلى بيتنا الذي لم يعد بيتنا ليبحث عنا, الفطرة قادته لنا داخل السهول العميقة ... عانقناه بشدة لا توصف .. الشيء الذي أضاف لفرحتي ضحك شديد هو سؤاله لي .. هل نحن مسافرون عبر الزمن ؟ , لم تكن الأرض هكذا قبل خمسة سنوات .. أخبرته أن التغيير ليس جميلا دائما وأن الأمر الذي انتظرناه قد حصل .


كانت بدايتنا عام 2111 عندما أسسنا (حزب الحقيقة) الذي ضم الملايين لنا حول العالم , كانوا يتوافدون لنا وكأننا "المخّلص" بعدما عمّت العالم في ذلك الوقت أزمات جمة وفوضى لا مثيل لها .. اعترانا الحزن والمسؤولية الشديدة عن العالم , أردنا التغيير والإصلاح وواجهنا فيضان من الأزمات والمضايقات والتصفيات .. لكننا صمدنا وارتكز حزبنا الغريب على أقدامه بمساندة العالم , كانت وكالة الفضاء مصب اهتمامنا وأنظارنا وكان لنا يد فيها وهو أخي (روي) ... كنا ندرك أمور جمة واستعددنا للمراحل الأصعب . أرسلت 6 مكوكات فضاء إلى المحطات الفضائية الثلاث , ثم بوشر العمل بمشروع سري جدا يحمل اسم  "اسكان المريخ" , أرسلت معدات ثقيلة إلى الكوكب لتجهيز ظروف إقامة بشرية عليه وجرى كل ذلك تحت اسم "البحث العلمي"  , منذ ذلك الحين أمضى أخي سنوات طوال مع العديد من الخبراء لتجهيز البيئة هناك .. بينما بقينا نناضل على الأرض ليعلم الناس بالحقيقة , لكن كذّبنا من كذّبنا وصدّقنا من صدّقنا وفي النهاية ظهر كل شيء ..


- قبل المحرقة


قبل عامين من وقوع المحرقة , في يوم ربيعي مشمس ودافيء .. كنت مستلق على شرفتنا المطلة على واد جميل .. أحلم وأتسائل أين تقع الأرض الأبدية , أو على الأقل من يستطيع تخيلها .. وكيف السبيل إليها , أرض عذراء مليئة بالمغامرة .. بعيدة عن قلق وتجسس التكنولوجيا .. بعيدة عن الملاحقة والإستجواب .. كنت غارقا في أحلامي المدموجة بدفء الشمس ... ثم فجأة فزعت على صوت الباب يضرب بقوة ... في النهاية أصبحت جالسا على كرسي في مكان يسمى "غرفة الإستجواب" تابعة للرتل التاسع الحكومي .. طلبوا مني الإدلاء بمعلومات عن الحزب وعن والدي الهارب في الشرق الأوسط , لكن بعد مدة أطلقوا سراحي بعدما ملّوا من قولي لهم .. أنا مجرد طالب ولا أعلم شيء .. بعد عدة أسابيع عصفت بالبلاد أزمة اقتصادية خانقة صاحبتها ارتفاع الأسعار وتم تسريح أعداد كبيرة من العاملين وزادت البطالة , كانت الحكومة في موقف حرج جدا وتوقعت نتائج الأزمة التي حدثت فعلا بعد يومين فقط , فيضان من العمال والشبان العاطلين عن العمل خرجوا في مظاهرة احتجاج تندد بمواقف الحكومة .. لم يتدخل حزبنا يومها لأننا معنين بالإصلاح ولسنا نعادي الحكومة , حصل قمع وفوضى كبيرة امتدت لأيام .. كانت الحكومة في الزاوية الضيقة حيال تعاملها مع الأزمة وفي الجهة المقابلة تعاملها المتوتر مع روسيا العظمى ..


في نهاية الأسبوع بعد فوضى عارمة تزداد فزع الشعب من حدث عظيم هز البلاد .. هجوم على بنايات حكومية بطائرات مدنية , اعتبر الهجوم الأعنف في تاريخ البلاد , ومع الأزمة الحالية غضبت الحكومة غضبا شديدا واتهمت روسيا بالهجوم , لكن الأخرى نفت ذلك فسارعت الحكومة بإغراق باخرة روسية في المحيط الأطلسي ... جميع السكان وحتى المتظاهرين أخلوا الشوارع والتزموا البيوت , صمت مطبق على الجميع .. ثم فجأة جاء الرد الروسي بخمسة صواريخ أشعلت النار في واشنطن , وقتل الآلاف .. واضطررنا ترك منازلنا والإحتماء بالملاجئ .. كان إعلان حرب رسمي وبدأ القصف الحارق من كلا الجهتين ..


- الآلات


في صباح يوم عصيب هدأ كل شيء فجأة .. خرج بعضنا من الملاجئ لتفقد الأمر , فتفاجئنا برجل يلهث قادم إلينا يصرخ .. 

- اخلوا المكان بسرعة , هناك أشياء تخرج من البحر قادمة إلينا .. الملاجئ الأخرى .. الجميع قد مات .. 

حاولنا الإبتعاد لكنها أدركتنا بسرعة , قاومنا كثيرا ومات من مات ومن نجى سار معنا إلى السهول العميقة تاركين المدينة خلفنا تلهب بالنار .. لم يستطع الجيش السيطرة على الآلات التي تدمر المدنية وتنخر في جدرانها , عندها لجأت الحكومة لإستخدام سلاح كان الجميع يسميه "العودة إلى العصر الحجري" , الكهرومغناطيسية هي وحدها من توقف الآلات .. قرار مجنون وصائب ألغى كل أشكال التكنولوجيا في المدينة وأطراف أخرى وقطعت الكهرباء .. وبين السهول كنا نقصد "بيت العجوز" , المكان الوحيد الذي لم يتسمم .. فيه كل شيء سليم , أقمنا هناك تحت الدرع الذي طوره أبي وأسماه "بيت العجوز" .. المكان الوحيد الذي لم يتأثر بالنار ولا بالكهرومغناطيسية , بعدها أخليت واشنطن تماما وتحولت إلى مدينة أشباح ..


- رياح المحرقة


.. ما الذي ستفعله الأقنعة لسكان واشنطن عندما يبلغ الجنون ذروته ؟! .. بعد أشعر من الحرب أراد الروس أن ينهوا الموقف كما أنهى الأمريكان الموقف مع اليابانيين منذ مئات السنين .. قنبلة الطاقة , قنبلة النار , مشروع سقر .. عامود من النار ارتفع عاليا في السماء .. كل ما حل بواشنطن صباح ذلك  اليوم أن كل الغربان التي حلت على المدينة قد احترقت من أول ضوء , ثم احترقت واجهات المباني لآلاف الاميال ثم موجة ارتدادية هائلة أزالت كل شيء من جذوره ثم صوت عظيم قتل الصراصير في جوف الأرض ثم سحابة برتقالية تتوسع وأمطرت السماء طيور مشوية وارتفعت الحرارة إلى 1000 درجة مئوية .. لا يمكن وصف هول ما جرى ومدى فظاعته .. تقف مصدوما فقط ثم يقشعر بدنك .. الوداع واشنطن .. الوداع .. ثم تبكي وتذرف الدموع وتخرج منديلك لتمسح دموعك .. ثم تتسائل .. ماذا استفاد الروس ؟ .. ظنّوا وظننا أنهم أنهوا الموقف ... لكن لم يكن الأمر كذلك .. بعد أسبوع من إحراق نصف الولايات المتحدة ظهرت حركة .. علمنا عندها أن الرتل التاسع كان يبني مشروع القبة كمشروعنا .. رأينا من الوادي ضوئين ينطلقان في السماء .. ثم استيقظت روسيا في جهنم .. قنبلتين من مشروع "الحطام" جعلت نصف روسيا رماد .. وبدأ التخبّط يعم العالم الحائر .. انضمت الصين وإيران وكوريا والعديد من الدول في الحلف البارد (روسيا) , بينما انضم الحلفاء للحلف الحار (أمريكا) .. لطالما كانوا يتباهون بمنظمة "أمن الكوكب" في حل الأزمات .. لكنها الآن احترقت وكذلك احترقت العقول وحل الجنون فقط .. 


كنّا نتابع إذاعة القمر التي تبث من المحطة الفضائية , لكنها فجأة سكتت .. علمنا فورا أن الأقمار الصناعية سقطت من السماء وبدأت أصرخ على الجميع برعب ..

 - لقد بدأت المحرقة , لقد بدأت !! ..

 أمضيت نهاري كشاب أحاول تهدئة النساء والأطفال وأوقف بكائهم .. ثم بدأنا ندعوا الله بصوت عال جدا ونعلوا أكثر فأكثر .. شعرنا أن الأرض تهتز , سمعنا صوت صفير في السماء .. ثم وابل من الصواريخ يحطم الأرض ... ثم يسألني أخي .. 

- هل الدرع يتحمل هذا ؟ .. 

طلبت منه أن يسكت ولا يثير الهلع .. ألح علي أن الوقت حان لتشغيل السفينة .. لكن لا وقت ولا فرصة ولا مجال للتحرك ولن تنجوا السفينة إن خرجت من مخبأها .. كان أشبه بنهاية العالم ..


- الطلائع


بعدما استنزفت الحرب كل شيء .. نفذت الأهداف إلا هدف واحد , كان بقعة أرض استمرت الصواريخ بالإنهمار عليها وكأن لا جدوى منها .. من بعيد ننظر ونرى نار حمراء تحرق كل شيء .. أخبرني أخي أن الأوان قد حان لتشغيل السفينة .. لكني قلت له .. 

- ليس بهذه السهولة نترك الأرض , من أجلها ناضلنا وعندي إيمان بأن نضالنا لن يذهب هدرا .. بدلا من السفينة أطلق جيش الطلائع .

.. في ذلك اليوم العصيب بقينا داخل الدرع بينما في الخارج كانت آلاتنا تعمل .. تنظف الأرض وتوقف الصواريخ وتنقل لنا الصور وتمهد طريق رحيلنا .. سارت عميقا حتى وسط واشنطن .. ونحن نراقب بتلهف حتى رأينا المكان الذي استمرت الصواريخ باستهدافه .. كان معزولا عن التسمم .. لقد نجى .. لذا لبسنا بذلات وآلات تنفس وانطلق فريقنا لنبحث إن بقي أحدا حيا في ذلك المكان ..


- البيت الأبيض



كأننا في كوكب يلامس الشمس .. الرماد لا يعقل , ولن يصدق أحد أن حضارة كانت هنا .. وصلنا مبنى البيت الأبيض الناجي الوحيد في الولايات المتحدة بعد "بيت العجوز" , لم نجد رجالات الحكومة ولا الرتل التاسع ولا حتى الرئيس نفسه .. كان هناك ثلاثة رجال لديهم لحى كبيرة .. أخبرونا أنهم حكماء وجاؤوا يبحثون عن المخلص , أوصافه نادرة .. من سيحرر الأرض , وسألونا عن السبيل إلى أرض العرب .. ثم أخبرونا عن مكانين ناجيين من المحرقة .. كانا المدينة المنورة والقدس .. تسائلنا إن كانت هناك قبة أو درع .. قالوا لنا أن الله لا يحتاج ليصنع درع .. الأرض خلقت للخير والآن ستعود للخير .. كان ذلك الوقت المناسب لتشغيل السفينة لنرحل إلى أرض العرب .. قبل أن نرحل طلب مني أحد الرجال الحكماء أن أنظر للبيت الأبيض .. رأيته يتداعى , بل يتبخر .. فأدركت أن "بيت العجوز" قد تبخر أيضا .. قال لي الرجل .. 

- هل حلمت بالأرض الأبدية ؟ 

قلت له..

- نعم ..

قال ..

- أنت ذاهب إليها , ستمكث بقرب المكعبة , فالأرض ستعود بخير فهي مريضة الآن .. مريضة جدا ..

 تبسمت وبدأت أتخيل , لطالما سمعت في التلفاز عن قرارات تصدر من البيت الأبيض .. لطالما تخفت الحكومة تحت منظمة "أمن الكوكب" , لطالما أقلقت استقرار بلدان في أرض العرب .. كان الجميع يتغنى بالبيت الأبيض .. ظننته نقي كلونه , لكن الألوان خدّاعة .. وانهارت أحلام التسلط والخلود والمجد .. كانوا يسيرون إلى الضلالة وكنا قلة نحاول الإصلاح , لكننا بقينا وهم ذهبوا .. لطالما آمنا أن الأرض لنا وخلقت لنا وستظل لنا ونحن أبناءها .. أقسمت حينها أن أزرع كل الكوكب عندما يشفى , ثم أن أجعل الجميع يبتسم .. وستكون ولادة جديدة ..


- النجـــــــــــــاة


حطّت سفينتنا بقرب المكعبة في المدينة المنورة , كان منظرا مبهرا .. موسم الحج حينها , يطوف الآلاف ممن نجوا يحمدون الله , وأنا أبتسم بمليء قلبي , أقبل الجميع علينا يعانقنا وتذكرت أبي وبكيت لوحدي , كانت فكرة موته لا تفارقني .. ثم من بين الجموع سمعت من ينادي باسمي فطرت إليه فرحا وشعرت بخفة في جسمي تحملني فكان هو .. أبي , عانقته بدموعي وقلبي .. أخذنا الناس معنا في السفينة ثم رحلنا إلى البلد الحزين .. إلى القدس , سمعنا صوت الآذان يصدح واستقبلنا القوم هناك الذين عانوا طوال حياتهم بسبب فساد عقول العالم وطمعه .. ثم من بين جموعهم رأينا المخلص صاحب الوجه الأبيض الذي حرر القدس .. حملناهم جميعا إلى الفضاء لنحيا في مشروع اسكان المريخ حتى تصلح الأرض ..


أقمنا هناك طويلا ونحن نرقب الأرض تسترد لونها الأزرق رويدا رويدا .. ثم أصبحت كالجوهرة في صباح أبيض عكست نورها على عيوننا التي استفاقت متهللة وفرحة بالوطن .. ثم هبطنا على الأرض بدون تخطيط ولا تفكير ولكن اللهفة تدفعنا .. كان شعور رائع وهواء منعش والخضرة عادت .. أخذت شهيقا عميقا وأرحت نفسي وقلت قولتي الشهيرة .. "لا أصدق أن بإمكاننا الخروج من بيوتنا دون أن نضع آلات للتنفس" .. كانت ولادة جديدة ونهاية لحقبة الدمار والحرب , ستبقى حكاية مرعبة تروعى للصغار قبل النوم .. وستبقى أسوأ الذكريات وأتعسها .. عم الخير وعشنا بسعادة وعاد الكوكب للدوران من جديد , لكن ما تغيرهو أن اليوم أصبح 27 ساعة وأصبح لدي حقل أخضر جميل وآمنت أني في الأرض الأبدية , رفعت يدي عاليا وصرخت ..



أمجد ياسـيـن

6 تعليقات :

غير معرف يقول...

قصة جميلة جداً وواقعيه تقريباً .. شكراً علي جهدك لتوصيل ماقد راءه خيالك ... والنهايه جميلة ايضاً (رفعت يدي عاليا وصرخت ...... امجد ياسين .. كتبت سينارو جميل تنقصك الامكانيه لتكون المخرج لاعظم الافلام الخياليه ..


تحياتي هيثم

مصرية يقول...

قصة خيالية رائعة لا اتمنى وقوعها مستقبلا

غير معرف يقول...

nice

azazil يقول...

خيال علمي رائع بالرغم من سوداويته, المستقبل المجهول , والتوقعات لنهاية البشرية والحضارة, طرق تفاديها , كلها امور تثقل كاهل البحث العلمي .

Unknown يقول...

رائع جدا اتمنى ان تبقى هذه مجرد قصة للاستمتاع و ان لا تتحول الى حقيقة مستقبلا

Unknown يقول...

رائع جدا اتمنى ان تبقى هذه مجرد قصة للاستمتاع و ان لا تتحول الى حقيقة مستقبلا

إرسال تعليق

اترك تعليقك على القصة ...

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021