25‏/5‏/2016

النوراني

من ذاق طعم هذا الكوكب في أيامه الأخيرة , في مرحلة الصبا يبدو الجميع متشابهين , كل الأحزان متشابهة .. وكل النغمات متشابهة ولا أحد يرقص طربا , سيل من الأحلام والذكريات القديمة تجري داخل الدماغ , كل شيء معتق يستمر كما هو كمدينة قديمة تحتفظ بتفاصيلها مدى الحياة ..

أنظر إلى السماء .. ماذا ترى ؟ حدق من بعيد إلى هذه الرياح الغريبة , الكل سعيد يظنه المطر ... خيمت على المدينة غمامة سوداء وأمطرت وخرّ مطرها في الأرض .. لو أدركت جيدا سترى أنه ليس مطرا , مع كل قطرة نزل شيطان إلى الأرض وسكن فيها وتغيرت كل الصور .

كانت الحكاية أن أتخطى توسلاتي .. وكل خطايا الفضاء , لقد جبلت من جديد أن أعيش في هذا الوجود , لن يصدق أحد أن الحكاية ليست كما يعرفونها , ليست كما سمعوها منذ نعومة أظافرهم .. لقد تخطيت سلسلة الكذابين تلك , بكل قوة تخطيتها لأن قانون الأرض العظيم هو الكذب , الجميع يظن بلحظة أنه مختلف , لكن ليس الجميع ظنهم صحيح .. ربما هو نتاج مصنع العالم ذاك الذي جعل تلك الكائنات البشرية بحاجة للتمرد .. أن تستفيق من حلم لتدخل في آخر .. حتى لا يفهم أحد ذلك التعقيد , وحتى ييأسوا من محاولة الفهم .. وبالنهاية يتخلون عنها ..

أنا أتكلم عن تلك الكائنات البشرية التي لا تستطيع مقاومة وجود أنثى من جنسهم بالقرب , فكيف ستقاوم كل ذلك الفساد .. كان لدي كتاب يتكلم عن الكائنات البشرية , ومن شدة انبهاري بها أغرمت بها وتمنيت رؤيتها , جلست وحدي أحدق بأحد اقماري , فكلنا ندّعي أن الأقمار ملك لنا وربما أحدنا هو حقا يمتلك كل تلك الأقمار التي تسطع في سمائنا والبقية يعيشون في ذلك الوهم .. وقد خذلنا كثيرا بسبب أوهامنا , وجميعنا نعرف ما نفعله بالبشر .. شعرت بحرقة بصدري لا أدري لم , انطلقت أسير في غابة المثلثات برفقة "سيرن" وهو من كائناتنا الأليفة , كنت غاضب ولدي رغبة بمساعدة البشر واخبارهم بما نفعله بهم .. جلست أنا و "سيرن" داخل "دوربو" وهو ما تسمونه "الكهف" , وآخر ما أذكره أنني نمت ..
ثم فجأة استفقت لأجد نفسي محاط بدماء حمراء وسوائل غريبة وجسمي أصبح صغير للغاية وهناك حبل مربوط بي من سرتي ويذهب داخل تلك الدماء .. أمضيت فترة طويلة لا أدر كم داخل ذلك المكان .. كل ما أفكر به هو كيف أصبحت هنا ؟ ..  ثم امتطيت ذلك الجسد وأشعر بالشلل بينما أشخاص يحدقون بي ويبتسمون , ظنوني طفلا , ظنوني ذلك الجسد !! لست تلك الكومة من اللحم والعظم التي تشكل ذلك الكائن البشري , أنا في الداخل !! .. كان الزمن وقتها "تان تنون مالا حدر" وهو ما يساوي بتأريخكم 32,560 , كان عمري حينها "كال تم هايبر" ويساوي بحسابكم 20836 سنة , كان التاريخ بحسابكم 21.1.1991 , حينها ظنت تلك الكائنة البشرية أنها أمي وظن ذلك الكائن البشري أنه أبي .

 لقد جري علي الزمن الذي لا يحكم عالمنا .. هناك حيث يسكن شر يتربص بالبشر حتى لا يفهموا من هم , حتى لا يصلوا للمعرفة التي بها يحكم الكون .. فأنا من تمردت وتمرد غيري .. كان هذا مصيري أن أسكن داخل جسد بشري .. 

سأروي لكم الحكاية القديمة , فأنا الآن بينكم وأسير في شوارعكم , قد أبدو متخلخل الأركان ..لكني أعلم أكثر مما يجب , تخطيت الحدود الحمراء .. أتذكرون ذلك المطر الذي نزل , لم يكن مطر بل شياطين .. أنا نزلت معهم ونزل غيري وغيري , كانت البشرية في بداياتها , قليلون وجاهلون ومحتارون ويحتاجون للمعرفة .. تسللت من خلف الحشائش أحدق لكيان عجيب منير له أجنحة يعلم الإنسان , يعلمه أشياء لم ندركها نحن .. خلال ذلك المشهد رحل ذلك الكيان تاركا الإنسان خلفه , تركه للوحوش التي نزلت مع المطر , هرعت إليه كأنه فريسة , وهرعت أنا لأننا وكلنا بهذه المهمة .. علمنا أنه خطر علينا , علمنا أنه سيحكم الكون , لم نرد لذلك أن يحصل .. كل ما فعلناه هو أننا أفسدنا الإنسان , علمناه القتل وأمور ليست من فطرته ..

بعضنا بقي على الأرض والبعض عاد إلى مكانه ومنهم أنا , لقد أنجزنا المهمة حقا .. من يومها لم أعود للأرض إلا خلال زيارات لبناء الحضارات , لم أحتمل يومها أن أرى البشر يعبدوننا .. لم أحتمل .. علمناهم هندسة من خلالها نستطيع انفاذ طاقة معينة إلى الأرض , علمناهم البناء المقدس , علمناهم أنظمة الكون , علمناهم الصناعة .. واستخدمنا كل تلك العلوم لتدميرهم ذاتيا ..

خلال العصور انحرف البشر مما تسبب لهم بالعذاب لأنهم لم يسمعوا لتحذيرات الله لهم منا , أزيلت حضارات وأمم بأكملها بيوم وليلة وجائت أخرى .. كنا محلقين في السماء ننظر لسفينة نوح وكيف الجميع حولها يسخرون مثل النمل .. لم يمض وقت طويل بعد أن جمع نوح حيواناته حتى حل العذاب من السماء , حل كوكب عملاق على مقربة من الأرض وأغرقها بماءه .. كان نعمة ونقمة ثم رحل ورحلنا نحن خوفا من النار التي هطلت من السماء ..

بعد خمسة سنين بشرية رجعنا للأرض , لأنه قبل هذه المدة كانت سماء الأرض مغلقة لسبب نجهله .. حطت سفينتنا على ظهر البحر واتخذنا أشكالا بشرية ثم تغلغلنا بين الأقوام البشرية العاجزة عن التقدم بعد صدمة الطوفان .. من يومها بدأ الإفساد الثاني لنا .. بنينا صروح عظيمة مثلثة تستقدم طاقة من عالمنا للأرض , كنا نستخدمها لشحن سفننا خلال بقاؤنا الطويل على الأرض .. أمضينا آلاف السنين ننتقل من حضارة لأخرى نغرس فيها أفكارنا , نصارع رجل واحد أرسله الله لتلك الحضارة , إما ينتصر هو أو تمحى تلك الحضارة عن الوجود .. 

قبل الطوفان وصلنا بالبشرية أبعد ما يتخيله العقل البشري , بحيث كانت صروحهم تناطح السماء تشع بتلك الطاقة الزرقاء المنبعثة من عالمنا , غزوا السماء والأرض وغزونا معهم حتى وصلوا لأبعد الكواكب , لكن فجأة بدون سابق إنذار انتهى كل شيء في الفضاء وتبعه انتهاء كل شيء على الأرض خلال الطوفان ..

 بعد الطوفان بتسعة سنين أصبحت الشمس تلفح وجه الأرض مما دفع كل كائن حي للهرب والإختباء في داخل الأرض , هربنا معهم واحترقت سفننا الباقية على سطح الأرض .. لسنين طويلة احتجزنا على هذا الكوكب حتى بردت الشمس وخرج من خرج ومن تأقلم مع باطن الأرض بقي هناك , ما أن خرجنا حتى كان أديم الأرض أسود محترق كليلة بلا نجوم حتى جاء المطر لينظف السماء والأرض ثم أنبتت غابات كثيرة وبدأنا مشروعنا من جديد بعد استقرار الأرض , بدأنا ببناء الصروح المثلثة في كل منطقة مركزية على الأرض .. أوصلنا الحكمة للبشر , الهند , التيبت , مصر , أتلانتس , مو , ميروبيس , بابل .. كان مركز الحكمة صرح عملاق بنيناه في مركز الأرض السفلي من خلاله نشحن باقي الصروح , كان بمثابة بطارية .. منه نصعد للسماء وإليه نهبط .. أسسنا حضارة جبارة فاقت كل الحضارات قبل الطوفان , لكن كان هناك شيء وحيد يعيق عملنا هو بناء مطمور في وسط غابات كثيفة يشع بطاقة غريبة عنا , لا يمكن ايقافها ولا الإقتراب من ذلك البناء القديم .. حتى كان يؤثر على سفننا قيسقطها في البحار وهنا وهناك .. 

وصل الحد بالبشر آنذاك أن يتخذوننا آلهة ففي كل أمة ظهرنا عليهم بشكل مختلف , وكل أمة حكم فيها رجل هو بالأصل منا وليس انسان , وكل ما كان يعيقنا هم رجال الله .. فقررنا شن معركة ضد ذلك البناء القديم وضد رجال الله , معركة هي الأشرس في التاريخ .. معركة "تراندس أوم" .. يومذاك لو نظرت للأرض لن تصدق أنها تلك الأرض التي كانت قبلا وستكون بعدا .. نزلت الملائكة من السماء بأعداد هائلة , حملوا كل أبناء الله معهم وأبقوهم معلقين في السماء لحين انتهاء المعركة .. ظنناها معركة سهلة , فلم نتعامل مع الملائكة من قبل , هطلت رعود فظيعة ظننا حينها أن الأرض انتهت وانتهى الكون معها واختفت الآثار .. يا للملائكة ولعظمتها , كائنات جبارة جعلت فرائصنا ترتعد .. هزمنا شر هزيمة وحصلت الإبادة الثانية بعد الطوفان .. فتحت السماء أبوابها وهطلت علينا نيازكا ومذنبات حملنا أنفسنا وركبنا سفينتنا الراكدة في قاع البحر وهربنا .. آخر ما رأيته تَزلزل الأرض وتحرك القارات وحرائق في كل مكان , فقدنا الكثير من قومنا .. احترقوا بنار الملائكة , أما البشر فانتهوا جميعا عدا المعلقين في السماء ..

لم نتمكن من العودة للأرض حتى بعد مئات السنين , كان كل من يقترب ناحية الأرض تحرق سفينته وتسقط على القمر أو على المريخ أو تتبخر في الفضاء .. في زمن ما أرسل أحد مرسلينا رسالة يقول فيها أن الأرض فتحت ويمكن الولوج إليها .. لهذا هرعنا إليها من كل صوب .. كان أول هبوط لنا في العراق في أمة تسمى "بابل" , كانت أمة بسيطة يعتاشون على الصيد والزراعة وعندهم دين ورثوه من أحد رجال الله ولم يذكر اسمه .. هبوطنا الثاني كان في منطقة تسمى "بلستيا" واكتشفنا في "بلستيا" بناء قديم آخر له تأثير مشابه للبناء الأول .. هبوطنا الثالث كان في أقصى جنوب الأرض رحنا نبحث عن المصدر الذي بنيناه هناك لنعيد تشغيله .. لكنه اختفى وتغيرت الأرض .. ابتلعته الأرض واكتسى الجليد هناك .. ومناطق أخرى تحولت لصحراء حيث شاهدنا البناء القديم الأول مغمور في الرمال ومتداعي وظنناه قد انتهى لكن لسبب غريب بقي يشع بطاقته .. أرسينا حضارة بابل ونهضت على قدميها حتى أعالي السماء ورحنا نتفقد صروحنا المثلثة هنا وهناك وكان أكثرها فاعلية هو الموجود عند البحر الواحد .. هبطنا هبوطنا الرابع في أمة تسمى "كيمي" تحكمها سلالة تدعى "الفراعنة" كانوا يتخذون من صرحنا مدفنا لهم , لهذا أعدنا بناء كل الحضارات والصروح وبنينا الصرح المركزي على القمر وليس على الأرض .. ثم حدث الإفساد الثالث , حولنا كل تلك الأقوام لعابدة لنا منهين بذلك جهد رجال الله الطويل , بنو الأصنام وأقاموا تماثيلنا ومجدونا وعظمونا ..

في ليلة ولد ذكر من الإنسان دعي "إبراهيم" في بابل العظيمة , لم نكن مدركين في البداية من يكون حتى كبر, عرفنا أنه من الله يتكلم وهو من أعاد بناء البناء القديم في الغابة المنسية .. فطالما ظهر رجل من رجال الله كنا مدركين أن نهاية عملنا قريب .. لهذا حملنا أنفسنا ورحلنا عن الأرض في رحيل كبير أسمته بابل "رحيل الآلهة" .. أخذنا معنا طفل رضيع من البشر ..

مر الزمان حتى بزوغ شعب إسرائيل مملكة الله وأبنائه , كانوا من أفضل الشعوب أعطاهم الله البركة التي لم تعطى للكثيرين , علق الجبال في السماء فوقهم كالظلل .. لهذا كانوا هدف لنا , نزلنا وهبطنا في مدينة تسمى "أورشاليم" وهناك أنزلنا معنا كائن من العصر الذهبي , الطفل الذي أخذناه معنا .. مع الوقت استطعنا جعل بني إسرائيل يمجدونه ويقدسونه ويعتبرونه مخلصهم , من هنا بدأنا إفسادنا  الرابع بخراب مملكة الله .. لهذا غضب الله على شعب إسرائيل وأزال البركة عنهم وأذلهم , فلم يهدأ لنا بال حتى كونا شعب إسرائيل الجديد بقيادة الكائن من العصر الذهبي وأنشأنا الحضارات تحت حكم اليهود في الخفاء .. أما الكائن من العصر الذهبي فقد أخفيناه في مكان لا يصل إليه أحد ففي كل مرة يريد الخروج كان يغير هيئته كما نريد حتى لا يكتشف من قبل رجال الله .. وقد ساعد كثيرا في الإفساد الرابع .. من يومها بات شعب إسرائيل ملك العالم القديم والحديث ..

صنعنا جيش لنا من كائنات العصر الذهبي , كائنات همجية وتتزايد , لكن أخفاها رجل حكم العالم يوما وحكم الكواكب والكون وسنعيد تحريرها عندما نزيل الحاجز عن الأرض .

سأورد لكم قصة عن مملكة سليمان .. أعطي سليمان ملك لا يتخيله بشر وحكم لامتناهي .. من أملاكه كانت سفينة يروح ويأت فيها كما يشاء حتى كان يغزو الفضاء فيها ويحط على الكواكب .. في كل مرة كان يكتشفنا يقوم بتدميرنا وأخذنا أسرى عنده وكنت أنا أحد أسراه ونعمل عنده .. لا ندري القوة التي حصل عليها وما مقدارها لكن قوتنا عاجزة أمامها .. أمضى بنا السنين من الإستعباد حتى مات وعدنا لحريتنا في بناء الخطة ..

مرت السنين وشعب إسرائيل يحكم ويأت رجل من رجال الله ويذهب آخر ونحن نرحل ونرجع مرورا بعيسى ومحمد حتى لم يعد يبعث أحد , وطالما لم يبعث نبي فلا شيء يوقف عملنا , هذا ما كنا نظنه .. حتى مات محمد حصل أمر رهيب , أغلقت كل الأبواب التي كنا ندخلها علنا عدا بعض الأبواب الصغيرة في السماء .. لهذا استخدمنا شعب إسرائيل كيد لنا على الأرض ونحن نرسوا على الكواكب البعيد والقريبة ولعمل أفضل أخفينا الصرح المركزي على القمر وكنا نراقب دولة محمد الأصعب علينا تكبر وتكبر وتكبر حتى عثرنا على منفذ نتغلغل فيه داخلها .. ثم انهارت .. انهارت كما انهارت البقية .. وما زالت تنهار إلى اليوم , وننتظهر إزالة الحاجز عن كوكب الأرض حتى نشغل الصرح المركزي من القمر ثم نشغل بقية الصروح على الأرض ونفتح البوابات وندخل الأرض بكل قوة وعدد ونعيد بناء المجد القديم بلا إنسان , صراع قديم لم نمل منه يوما .. لكننا نخشى من فتى الرب , صديق الكون الأول ..

كتبت لكم كل هذا وأنا أجلس محصورا بجسد بشري , تبت منذ القدم لهذا عوقبت واختفيت في الأرض كما اختفى غيري ولا أريد أن أُعرف حتى لا أحرق , أساعد البشر وأخبرهم الحقيقة بكل قوة بلا ملل ساعيا للإنقاذ في آخر لحظة , خطة طويلة جدا منذ قديم الزمان ترسوا أمامكم ولدي كتاب يخبر كيف ستكمل تلك الخطة لكن لا أحد يصدق .. أن الهدف هو ذلك البناء العتيق الذي يشع منذ مجيء الإنسان ولم نقدر عليه ونبذل جهدنا لتدميره وإن لم نقدر سندمر طاقته .. ألا يبدوا واضحا لكم ما يجري هناك , كيف تم دفن دين محمد , كيف تم تحريف إسم الله أمام أعينكم .. كيف تم غرز جذور بجانب المكعبة .. 

طالما لا تعوون فبكل قوة ستعون .. لا أريد أن أكمل سأكتفي بالإشارات وقد وضعت القلم جانبا .


أمجد ياسين

16‏/11‏/2015

الفتنة

غار قديم يقيم فيه عجوز قديم لا يعلم الناس عنه شيء ولا يُذكر له تاريخ , على سفح الجبل يطل غاره على وادي في مكة تتوسطه الكعبة المقدسة , كان موسم حج يحوم فيه الناس حول الكعبة بمنظر جميل يشعر ذلك العجوز بالطمأنينة وتظهر على وجهه ابتسامة بأسنان هدها الزمن ..

مر الوقت حين سمع العجوز صوت هزة يقترب , لكنه لم يحرك ساكنا فبدى كأنه على علم بالأمر , يومها هجم ملك حمير المتغطرس (آبراموس) على الكعبة , أراد هدم البناء الذي تتفلق له قلوب العالمين .. لكن العجوز لم يقلق بل استمر يقرأ بكتابه وليد الغار وكتبه الجبل أن العار كل العار سيلحق صغير البشر , لا أحد يفهم ما يحدث هناك , لا أحد يعلم بما يعلم ذلك العجوز ..

مر اليوم على صوت طيور ليست من عالمنا جائت من السماء تحمل جهنم معها لتحرق ذلك الصغير , إنها قصة قديمة لم يعش العجوز بعدها أكثر من خمس سنين ثم مات وحفظت الصخور جسده وأغلق الغار ..


في عام حديث حيث تحول العالم ولدت إمرأة حديثة السن طفلها الأول , كان معجزة لأن السماء أخبرتها أن ذلك الطفل معجزة , مدينة "مينسك" جمهورية بيلاروسيا عام 1943 , كانت الحرب العالمية الثانية في أوجها حيث تحترق الأرض بوتيرة متسارعة , كان والد الطفل مشترك في القتال لمواجة ألمانيا النازية والأم لوحدها هناك .. حتى حان الوقت الذي زحفت فيه الحرب لمدينة "مينسك" دافعة بالآلاف للهجرة من روسيا كلها متجهة للجنوب .. وكانت (آنفيسا) واحدة من المهاجرين تحمل طفلها في أحضانها وترتعش خوفا وبردا تاركة زوجها خلفها ولا تعلم أحي هو أم ميت ..

بعد أربعة سنين ..

اسطنبول عام 1972 , في صباح أحد الأيام ضجت المدينة بأصوات سيارات الشرطة تبحث عن فتى بلا هوية ولا اسم ولا تاريخ ميلاد , فتى يظن أنه يخطط لمنظمة إرهابية , لكن البحث بات بلا جدوى لأن ذلك الفتى لجأ لمكة دون أن يشعر أحد .. إنه يعرف أن العالم ليس مهيء له لذا يلجأ لبيت جده القديم , الغار على سفح الجبل المطل على مكة , غار "قم" , الطريق إليه طويلة ولا يمكن اكتشافه .. كان الغار مقفل لكنه فتح لذلك الفتى ثم أقفل .. في الداخل يتوقف الزمن , مكان مضيء بالمعرفة , كون مصغر .. 


تمر السنين وذلك الفتى يرى الشعب الملعون يحكم العالم , والجميع يعبد الشعب الملعون , والشعب الملعون يسكن الأرض المقدسة ويعيش جنبا مع الجبابرة .. تمر الأيام ومعابد الشيطان تتزين بالطرقات , والكل فرح بانسلاخ روحه .. تسير روح ذلك الفتى بالشارع , في مدينة الرياض فتى أشعث يبدو سفيها يجلس بجانب الطريق , لا أحد يلقي له بال .. كان يوما من أيام عام 1982 تحتفل فيه البلاد بتنصيب ملك جديد , إسمه يشبه إسم حيوانات الغابة .. يضع الأذى على الطريق .. كان هناك صمت في ذلك الشارع حيث كان موكب هائل قادم , فجأة ركل أحد الجنود ذلك الفتى بعنف طالبا منه الإبتعاد .. فانطلق الموكب يهتف له الرعية وخضعت البلاد للحكاية نفسها التي يجهلها الرعية .. كلما سار أحدهم فوق قشرة الموز لعن واضعها ولا أحد يفكر بإزالتها فتحول كل الشعب لملعون .. والنور وسط العتمة ينطلق منذ أول الزمان من مكة ..

زمان حافل بالقتل , كل متربص يعد الأيام ليلتهم منصب الحكم , كلهم من جلدة اليهود .. حكم الرئيس الأسود بلاد فرعون بالأسى , ثم قتل في رحلة صيد والتقم الطعم رجل البركة من يومها وفي السطور كتب أنه سيرحل من عمره ولن ترحل سطوة يده .. وفرعون لم يمت بعد ثورة على الممالك يصنعها الشعب الملعون بيد الشعب والشعب سيبكي في النهاية لكنه لم ينتبه للخديعة الكبرى إلا بعد فوات الأوان .. لا أحد يهزم الشياطين بالحقد , في شوارع القاهرة كان ذلك الفتى يسير بهندام مصري أنيق , ويصادف رجل طيب مبتسم يرى الأمور هادئة .. يخبره الفتى أن جاره سيحمل سلاح بعد أسبوع ليقتله وسيفعل الجميع ذلك , لأن الشعب الملعون سيخلط الأوراق التي كانوا يهتمون بترتيبها وفي نفس الوقت كان هناك من يفخ الهواء عليها وهم لا يدرون .. لم يحن ذلك الوقت بعد .

كانت الشياطين تتحاور منذ البداية أن مكة أذى لهذا العالم , لم تفلح يوما بإزالة ذلك الأذى منذ فعلتها حين أرسلت (آبراموس) , مات (آبراموس) ولم يمت (آبراموس) , في الجزيرة العربية هناك حكم الممالك المبنية على الزيت الذي يضيء السراج , فكل ما تحتاجه الشياطين هو نفخة على السراج لتنهار الممالك كلها الواحدة تلو الأخرى , لقد ولد (آبراموس) من جديد , وإنه رجل غبي وليس ذو هيبة ولا رهبة .. خلق من الزيت , زينت له الأحجار الجميلة لينصبها أمام الكعبة شامخة تناطح السماء , إنه معبد للشيطان نصب أمام درة الكون , يا لغباء (آبراموس) ويا لغباء رعيته .. منذ متى والبشر يشربون الزيت .. لم يحن ذلك الوقت بعد .

كان هناك صوت يخرج من مبنى غريب في الرياض , صوت شخص يصيح برجل أنه ستكون مسكنه الجبال وسيعطى اسما لامعا وسيعطى الزعامة , من لدن آدم , فعل ذلك الرجل المطيع وذهب لبلاد الحرير , وجلب شر الدنيا عنده ونال كل شريف نصيبا من ذلك الشر .. انتهت الحكاية في النهاية وألقي في البحر لكنه يسكن مع أبنائه بإحدى الأماكن الراقية ..

على ما يبدو أن العالم لا يحب أن تدوم القصة بنفس التسلسل والأحداث , حسنا طوي كتاب وفتح الآخر .. أبناء لا يخيطون ثيابهم إلا من الليل جلست الشياطين أياما تبحث لهم عن اسم , وأخذو الإسم ومسح (آبراموس) على رؤوسهم .. وأصبح من يعيش بالغابات لا حكاية له سواهم .. كم هي ذكية تلك الشياطين , هؤلاء أحفاد "لدن آدم" هم من صنعو تاريخ الحادي عشر العظيم .. امتلأ العالم بالغبار حين تساقط الحديد من السماء ملتهبا بالنار , ولم ينظر الجميع للشياطين وهي تسقطها لأن الجميع أعمى ..

يقول الكتاب أن الشياطين تحج عند الكعبة , هذا عجيب حقا , حين لم يبق للعشرين عام إلا خمس أعوام ستحج الشياطين عند الكعبة , أين أنت أيتها الطيور عنهم .. على أحدهم أن يخبر الناس أن هناك خطر لكن لم يصدق أحد ومات اللباس الأبيض سحقا .. تبا كم أن هذا عجيب , (آبراموس) لام المطر وهو حاقد على دولة الفرسان التي تسكب النار من الشمس في الحديد لتوقف تهديد العالم , الجميع يوما ما سيحترق بتلك النار .. الجميع عدا من تحبه الشمس ..

في البلاد المقدسة سيحكم رجل لا يغير ملابسه , سيترك سيفه جانبا لينجس يده بيد الشعب الملعون , لكنه سيقتل بحفنة من يد الأشيب العجوز , ثم يحكم بعده ويضع قانونا جديدا ينص على وجوب عبادة الشعب الملعون .. وا أسفاه على الجبابرة , الخبث يسيل من عيونه كلما تكلم وسيعلم الجميع بأمره ويتركوه لكنه سيقتل عندما يحين أجله .. وكل كلابه الضالة لن تحويها أي أرض ولن يقبلها تراب ولا أي كوكب .. وسيثور الجبابرة على الشعب الملعون بعد أن تفسد روحه .. أنتم لن تدركون أن الأرض ليست هي المغزى ..

من قذارة هذا العالم تحفن الشياطين وتلقيها على برج يشبه حرف الأرض , ويموت من لا يعرفون أرواحهم تحته , ولأن من يخيط ثيابه من الليل غبي سيقع فريسة وهو لا يدرك أنه فريسة .. سينقض أبناء الشياطين على كل أبناء سام , وكلما أخبرتهم أن يرجعوا لن ينتبهوا لك لأنهم بالنعيم .. إنها جنة زائفة , سيأتون لبيوتهم وسيدخلوها بدون أن يقرعو الباب , وسيرحب بقدومهم ويقدم لهم كل مشاغب قال "الموت للهرم" .. هذا العالم غريب أليس كذلك , كل هذا يعد لذلك الإله القذر الجالس في الكهف ..

سترتعد السماء بقصف رهيب , إنها تمطر حجارة من الكون لهيبها لن يدركه الأغبياء , وسيذهبون للحج لأنهم غير أنقياء وستذهب الشياطين معهم وكلما اغتسلوا تسكب القذارة فوقهم .. هناك يجلس ذلك الفتى يراقب كيف يذبح الحجيج بسهولة وهو يبكي والأرض ترتعد من بكائه والسماء تنبض لبكائه والكون ينتفض له .. فغضب الله قد حان .

ألم تسمع بمدينة تضع ساعة كبيرة في الأعلى , ستسقط هذه الساعة وتتوقف .. ولن يتمكن أحد من اصلاحها لأنها تخص الشياطين , والشياطين هربت .. وداعا يا مدينة العاشقين , وداعا باريس .. غضب الله يزلزل وقريبا ستنتهي الحكاية .. كل قد ذكر اسمه بالكتاب , وتخيل .. كذلك لون عيونهم .. أنت تعرفهم إذن , نعم , نعم .. كانت مكة شامخة بوسط الفوضى والدخان يتصاعد , لا أمل من الصورة الجميلة .. ترتعد فرائصي كلما نظرت لذلك الكائن العملاق الذي يحرس مكة , إنها نهاية أعظم كوكب ..

هل مررت على كوكب مثل هذا ؟؟!!

لا , فلم أخبرك بكل ما في الكتاب !



أمجد ياسين

19‏/6‏/2015

الظل

في ليلة عشاء سرمدي تقيمه الكائنات في حجرة بيتنا , حيث بدت الشمس في الليل والقمر أنار في النهار والنجوم انهمرت على الأرض محدثة شررا أحرقت فيه كل العتمة .. البشر لا يعتادون على المعجزات , والكون دائما على حق , ولا أحد يكتب عبثا فكل الأفكار من مكان آخر .

يتداعى الكون في يوم القيامة وكل البشر سائرون في طابور بلا بداية ولا نهاية وأنا معهم أنتظر شيء لا أعلم عنه شيء ... طريق للجحيم وطريق للجنة وهناك فوضى تحدثها كائنات كبيرة مليئة بالرعب تدفع الجميع لأمكان غير مفهومة .. ألوان بلا أسماء لأنه ليس هناك مثلها على الأرض , والجميع يتمنى النجاة .. وأنا واقف أبحث عن المعرفة , سألت أحدهم .

- هل نحن قريبون من الله ؟

لكنه في صدمة وهلع .. ناديت على أحد الكائنات الكبيرة ..

- أريد رؤية الله , هل هذا مسموح ..

إنه صباح كأي صباح يستفيق عليه البشر بعد ليل لا يعلمون ما الذي يحدث فيه وهم نائمون , إنها الشمس تنهمر بشعاعها في دورة ولادة مستمرة .. إنه آخر يوم في المدرسة , ثمانية عشر عاما تعلمت أشياء منكرا لها .. ولقد ظلمت العالم بإنكاري , فأي المعاني يبتكرونها , وأي الكلمات يدعونها .. إنهم بلا هدف ..

وصلتني رسالة على هاتفي تقول : " يا صديقتي , البسي جميلا اليوم .. فأنا فرحا لك" , بلا رقم كالعادة , ذهبت للمدرسة معلنا انفصالي .. ما سر تلك الشجرة , ومن يكون صديقي ذاك .. تنتابني عاصفة من البهاء أغض فيها البصر عن العالم .. ها أنا قد عدت للبيت بلا كتب , فالكتب شيء آخر عندي , وصلتني رسالة جديدة تقول : "بدوت بهية .." , شعرت بالغرابة حقا .. حملت نفسي حتى تلك الشجرة , إنها شجرة سرو , لكن ينتابني شعور مميز عندها وأشعر أن أحدهم يمت لي بصلة بقربها .. ناديت ..

- ألن تظهر لي نفسك ؟ هل أنت خجول .. إن كنت ممن كانوا في ليلة العشاء فاظهر ولا تخجل ..

رياح في المكان وهواء معطر بالزمان , كل الذكرات تتساقط من السماء كأوراق الخريف .. وصوت خشخشة كأن أحدهم قادم نحوك .. تيقنت حينها بأني أقف وجها لوجه أمام ذلك الشيء الذي لا أراها .. شعرت برهبة وجمود وحرارة , قلت بثقة تخفي خلفها خوفا .. 

- اظهر لي ولا تخجل , لكن لا تكن مخيف ..

لقد ظهر , كيان بلا شكل .. أسود كأنه مخلوق من العتمة , يحدق بي ولا أدر موضع عينيه , تكلم في هذا اللقاء الغريب ..

- أما زلت تريدين رؤية الله ؟

قلت له ..

- نعم , علي أكمل كتابي , وعلي أن أسأل الله الكثير من الأسئلة .. لكن لا أعرف كيف أتكلم معه , لهذا أريد مقابلته .. لكن صحيح , من أنت ؟

قال لي ..


- ماذا تظنين ؟

قلت له ..

- هيا أجبني بلا جدال .. 

قال ..

- أنا الكون ..

ثم ظهرت عيناه وتفاصيل جسده لكنه بقي أسود .. لم يلبث طويلا حتى ذهب .. فشعرت بخدر في جسمي , جررت نفسي حتى البيت ونمت بعمق كبير , لم أشعر بالوقت ولا بنفسي ولا بأي شيء حولي كأنني خارج جسدي وخارج الكون .. أيقظني ذلك الشيء فجأة وطلب مني أن آتي معه , لكن النعاس يخدرني فأمسكت بيده دون أن أسأله إلى أين .. بدأ سريري يبتعد وغرفتي وبيتي والكوكب , كل شيء أصبح يدور حتى سكنت أمام مجرة هائلة تبرق ولها صوت كالمطارق , رهبة وسعادة تنتشر في جسدي , كل الألوان هناك حتى التي ليس لها تعريف في قاوس البشرية .. أراني ذلك الشيء الطريق إلى الله , دوامات هائلة تحوم في كل مكان , تشع باللون الأزرق الباهي .. بدت عنيفة جدا , وقد أخبرني أن الدخول فيها يقودني إلى الله .. فبدأت أسبح في السماء بكل قوتي , لكنها بدت بعيدة جدا ولم أمل , والأرض في مكان ما تدور وتدور والكثير من الأمور حدثت وأنا أحاول الوصول ... وأخيرا وصلت , وصلت تحتها مباشرة ثم بدأت أصعد حتى بدى كل شيء حولي أبيض كالثلج .. طريق طويلة وسريعة للغاية , فالزمان بدأ من الماضي , ذكريات كثيرة , أصوات كثيرة وأوجه كثيرة وهلع .. ثم ألقيت من السماء إلى مكان جديد كأنه كوكب ..

أخذت أمشي وأنادي على الله , لكن لا أحد هناك , مكان واسع وموحش .. كأن شيء ما يمتص هذا المكان , طاقة خضراء ترتقي للأعلى ثم اختفى كل شيء وعدت أسبح أمام تلك المجرة الهائلة , وكأن كل تعبي ذهب هدرا .. فعزمت على أن أعيد الكرة , لكن شيء ما منعني من التقدم .. فسمعت صوت أمي قادم من المجرة , ورأيت كتابي يعرض على الملأ , كان هناك الكثير من الناس ينظرون لي , ثم امتلأت المجرة بالبرق الأزرق ودخل رأسي وكأني فقدت روحي حتى استفقت .. في تلك الليلة رأيت الشمس في الليل ولا نجوم هناك لأنها تساقطت على الأرض .. كل ما كنت بحاجة لجواب له قد أتاني بدون أن أدر كيف .. أنهيت كتابي في تلك الليلة رغم أني لم أر الله ...



شعرت بحزن لا مثيل له , لا أدر لم , كأني حمّلت هموم البشر .. وأخذت أبكي بصمت ودموعي تنهمر , فحملتني قدماي إلى الشجر , وأخذت بجذعها أشهق من البكاء , لا ترحلي .. لا ترحلي .. الحكاية تعود لراويها , فأدركت مالم أتوقع إدراكه , فكان علي أن أنتظر يوم القيامة حتى أر الله , والكون بات يزورني كل ليلة بدون أن يدر أحد , حتى أقرب البشر إلي , أمي .. فعدت إلى بيتي أقلب صفحاتي في كل مرة ينتابني الفضول لعلي أشبع لكني لا أشبع ولا أظني أشبع ولم أتوقف عن الحزن .. ولم يعد لي حلم ولا أماني ..

بعد عام ..

رأيت جرافة تحفر في طريق المدرسة , أسرعت إليها فوجدتها قد أزالت تلك الشجرة وأشجار أخرى .. سيقيمون مقبرة هناك , شعرت بالإنهيار والضياع , كان بودي الصراخ عليهم لكني انسحبت بهدوء عائدة إلى البيت , دخلت في نوم عميق لعلي أنسى كل ما ينسى .. ولعلي لا أستفيق , في كل مرة أجلس فيها أمام الطاولة أشرب الماء ببطيء أحدق فيها إلى لا شيء , وأشعر أن لا شيء يحمل معنى لما أبحث عنه .. لو يفقهون ما تكون تلك الشجرة , ليتهم يعلمون .. فيبدوا أن الأرض لن تتحمل موتاهم وأحيائهم .. لهذا علي الرحيل عن البشر قبل أن تلفظني الأرض خارجا , أدرك أنني بدون عائلة منذ ولادتي , وأدرك أن ذلك الكيان الظل صديقي قبل ولادتي وأعطيته دعوة لحضور العشاء السرمدي , لعلي أجد من يريني الله لكني لم أجد , رغم هذا وجدت الطريق إليه وإلي .. 


أمجد ياسين

30‏/1‏/2015

الشمس السوداء - الجزء الأول

يوم حافل بالصمت في زمن بعيد , بين زقاق المدينة يتجول فتى يبيع علب صغيرة والناس تتجمع حوله ليأخذ كل واحد علبة .. مر رجل بجانبهم فأوقفه المشهد , اقترب وانتظر حتى لم يبق غير ذلك الفتى .. كضباب انقشع كاشفا مدينة الأسى .. سأله ..

- ما الذي تيبعه يا فتى ؟

أجابه ..

- لا أدري سيدي , قيل لي أنه في الداخل مكتوب ما تريد فهمه .. هل تريد واحدة سيدي ؟

قال له ..

- نعم أعطني علبة ..

أخذها وانطلق لبيته , فقد كان الليل قد حل .. جلس ذلك الرجل ليرى ما بداخل العلبة , فتحها فوجد كيس وورقة تعليمات مكتوب عليها .."إن الشمس منطفئة , رقّعوا حياتكم .." , شيء غريب حقا , شعر ذلك الرجل بأن شيء مهول قادم .. فقد أمضى الليل شبه نائم ..

نهار جديد , يذهب فيه ذلك الرجل لعمله كالمعتاد , لكن في الطريق استوقفته الإعلانات التي تملأ المدينة .. "إن الشمس منطفئة , رقعّوا حياتكم" ..يشعر أن الأرض ثقيلة حقا والحركة قليلة داخل المدينة , يتسائل عما يجري .. يجد صحيفة الصباح على مكتبه وأول خبر بالخط العريض .. "بوادر كونية غريبة .. وحكومة الأرض تسعى لإنقاذ الناس" .. انتصب واقفا بين زملائه قائلا ..

- هلّا يفسر لي أحدكم رجاءا ما الذي يجري !!

استغرب عندما وجد الجميع يلوح له بتلك الرقع التي كانت تحويها العلب .. جلس قلقا والخوف باد على وجهه , ما الذي جرى فجأة , ينظر من النافذة للسماء فلا يجد شيء غريب ..

بعد أسبوع ..

في صباح أحد الأيام اسيقظ ذلك الرجل على صوت سيارات تنقل أناس يتساقطون في الشوارع بدون سبب , أعداد كبيرة ..والحكومة تذيع على التلفاز وتنبه الناس بضرورة اقتناء تلك الرقع ومن يتهاون سيسقط .. في ذلك اليوم عمت الفوضى المدينة, مثل ثورة أشعلتها السماء جعلت أرواح الناس تتمرد .. أرواح كثيرة غادرت الأجساد بدون سبب , شعر الجميع بخوف حقيقي جعلهم يهرعون لبيوت العبادة يطلبون تفسير رجال الدين ..

- إنهم يتمتمون عن نهاية العالم !
- تتكلم معي ؟
- ألم تسمعهم , يقولون أنها نهاية العالم !

من الأفضل ألا تجادل أحدا في هذا الوقت , منذ سنين مضت عاش ذلك الرجل كمواطن في مدينة كأي مواطن , هاديء ويفعل كما يفعل الآخرون , لكنه في الليل يغرق داخل كتبه القديمة , بينما هو في بيت العبادة يتأمل بدرت في ذهنه تلك العبارة " سينام النبات تحت الظل نوما أبديا لأن الظل لن ينقشع بعدها" قرأها في أحد كتبه لكنها الآن مثل النور في وسط العتمة ..

فترة طويلة مرت على المدينة بدون أناس , كل شيء ترك على حاله , والموتى كثر .. في يوم سبت بعد الظهر ازداد نور الشمس بشكل مفاجيء .. وأخذ يزداد ويزداد حتى عم نور ساطع أرجاء الأرض , بعد أسبوع أخذ نورها يخفت ويخفت , خلال تلك الفترة أصيب أعداد كبيرة من الناس بالعمى ومات آخرون .. ومن بقي في منزله نجى .. في يوم انتهى نور الشمس تماما وأظلمت السماء .. لم يكن الليل قد حل ولكنها الظلمة .. فبدأ الفزع ينتشر بين الناس , عصر الجليد , موت النباتات , انتهاء الأوكسجين .. لا أمل يهديء من فزع الناس والحكومة صامتة .. ذلك الرجل يجلس مترقبا قرص الشمس الأسود يطفو في ظلمة قاحلة , دموع تنسل من عينيه وخوف يتراقص في قلبه وهو يعيد قراءة كتبه في ليلة واحده لعله يجد تفسير .. لكن لا تفسير بين بحر من الكلمات الغامضة ..

انتهت الكهرباء في ليلة صامتة وعم السكون , وأخذت الحرارة تنخفض شيئا فشيئا .. بينما الرجل يبكي بحرقة متوسلا الله أن ينقذ الأرض .. فجأة يطرق أحدهم الباب , يفتح فيجد رجال بزي عسكري يطلبونه عند الباب ..

- السيد (أبراهام) , تفضل معنا .. 

بدون سؤال ذهب معهم .. أخذوه بسيارات عسكرية لمنشأة عسكرية , هناك قابله جنرالات وأخبروه أن الشمس قد انطفأت .. وأخبروه أنهم يعرفونه ويعرفون كل تفاصيل حياته , طلبوا منه اقتراح وحل .. 

قال لهم ..

- إن مجرتنا قد سافرت للحزام المظلم , بحيث يبطل مفعول فوتونات الضوء تماما ويشتتها .. لا أدر إن كان الأمر سيطول أم لا .. قبل ملايين السنين مرت على الأرض نفس هذه الظلمة , وذكرت في إرث الحضارات الغابرة "الشمس السوداء" ..

قالوا له ...

- الأرض ستتجمد قريبا ومحطة الفضاء ستتوقف عن العمل فوقودها الإحتياطي سينفذ قريبا , لدينا اقتراح ونظنه حل لإنقاذ كوكبنا , لكن قبل الشروع فيه سنأخذ رأيك .. لقد صنعنا "شمس" وهي الآن فوق تسبح قريبا من الأرض .. آلية عملها أنها جهاز لتجميع وتركيز فوتونات الضوء من الكون المحيط حتى أدنى تركيز منها ومنع تشتتها ثم اطلاقها باتجاه الأرض .. ما رأيك , الشمس جاهزة وتنتظر التشغيل ..

قال لهم ..

- ابقوها في مجال القمر حتى لا تدخل ضمن قوة الحزام المظلم فيستهلكها .. افعلوا ذلك قريبا وسأصلي لنجاح الأمر ..

عاد الرجل لبيته بهدوء وأخذ يترقب من النافذة للكون المظلم , لا نجوم ولا أجرام سماوية .. أكمل قراءة كتبه تحت ضوء شمعة خافت .. "عندما يطير الحديد في السماء ويصبح الجميع سعيد بما لديهم , ستختفي الشمس ثم تنير حلقة عجيبة الكون ويحكم ملك العالم" .. لم تكن تكذب , لم تكن تكذب ! أعرف ذلك ! ...

الجميع يحدق في السماء منبهر , حلقة تظهر من العدم تنير وتكتمل حلقتها ثم تشع وتنير الأرض بشعاعها .. أصوات فرحة تعم العالم , لقد صنعوا شمسا في السماء .. انظروا إنها تنير .. وانطلق الجميع يسير في الطرقات .. في ذلك اليوم استدعى الرجل للمنشأة العسكرية مجددا .. أخبروه عن أمر طاريء ..

- لقد نجحت آلتنا وعملت , لكن لا نظن أنها ستصمد فهناك عواصف مظلمة تجتاح الكون , ونخش من أمر خطير قد تحدثه تلك الشمس , زيادة الكهرومغناطيسية والإشعاع على الأرض .. 

قال لهم ...

- امضوا قدما وتمنوا ألا يحدث شيء من ذلك .. سنجتمع قريبا ..

بعد يومين ..

صداع ينتشر بين الناس وزيادة الموتى , وهتافات عن نهاية العالم .. موكب عسكري كبير يمر من وسط المدينة , صوت انفجار كبير وضجة في الخارج .. يفتح النافذة ليرى إحدى سيارات الموكب قد انفجرت وتوقفت الأخريات ..

رجال من المنشأة العسكرية يطرقون الباب ..

- ما حذرنا منه قد حصل , الرئيس مات وقد فقدنا الكثير ..


يتبع في الجزء الثاني 


أمجد ياسين

 
كافة الحقوق محفوظة للكاتب © 2021